ووجه آخر: أنهم لم يصدقوا بالعذاب في الدنيا، ولو صدقوه لاهتدوا مخافة نزول العذاب بهم.
والثالث: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ ... ) اختلف فيه: قال قائلون: إنما يسألون عن إجابتهم الرسل ماذا أجبتموهم؟ على علم منه أنهم ماذا أجابوا هم، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦) أي: الإجابة، فلا يتهيأ لهم الإجابة لهول ذلك وفزعهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما يسألون عن الحجة والعذر الذي به كانوا تركوا إجابة الرسل، فيقول لهم: لأي حجة وعذر تركتم إجابتهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ)، أي: الحجج والعذر، لما لم يكن لهم الحجة والعذر في تركهم إجابتهم.
(فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل بعضهم بعضا، بل يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا على ما ذكر في الكتاب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) بالحجة والبرهان؛ لما لا حجة لهم ولا برهان، أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج؛ لأن اللَّه أدحض حججهم وكلل ألسنتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يتساءلون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ كقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). واللَّه أعلم بذلك.
ثم إن بعض المعتزلة تكلموا فيه وقالوا: لو كان الأمر على ما قاله القدريون والجبريون في المشيئة والإرادة، لكان يسهل لهم الاحتجاج، ويهون لهم العذر، فيقولون: يا ربنا أجبنا ما نفذ من مشيئتك وإرادتك، وما مضى من قضائك وكتابتك علينا؛ إذ كنت أنت قضيت وكتبت علينا وشئت وأردت ما كان منا من التكذيب لهم وترك الإجابة، فلم يكن لنا تخلص مما شئت أنت وقضيت علينا.
إلى هذا الخيال يذهب جعفر بن حرب، وهذا تعليم لأُولَئِكَ الكفرة الحجاج بالباطل والكذب بين يدي رب العالمين للتكذيب الذي كان منهم.
ثم يقال: لو كان لهم ذلك الحجاج على زعمكم، فلا يكون ذلك لهم بقولنا، ولكن إنما يكون بكتاب اللَّه وسنة رسوله وقول المسلمين أجمع حيث قالوا: (ما شاء اللَّه كان