الهجرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)، أي: بلغ بحيث يعمل ويمتحن عندنا.
قال له: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى).
وترى بالنصب والرفع جميعًا - فيه دلالة أن رؤيا الأنبياء والرسل - عليهم السلام - على حق تخرج كالأمر المصرح؛ ألا ترى أنه لما قال له: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقد عرف حرمة ذبع بني آدم وقتلهم قال له ولده: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولو لم يكن أمرًا لم يقل: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، ولا قال له إبراهيم: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم الذي لا يسع الإقدام عليه، واللَّه أعلم.
ثم في قوله لأبيه: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) دلالة أن لا كل مأمور بأمر من اللَّه شاء اللَّه أن يفعل ما أمره؛ حيث أخبر أنه سيجده من الصابرين إن شاء اللَّه، وقد ذكرنا أن إبراهيم - عليه السلام - كان مأمورًا بالذبح، فإذا أمر هو بالذبح أمر هذا أن يصبر على الذبح ولا يجزع، ثم أخبر أنه يصبر إن شاء اللَّه دل أن لا كل مأمور لله بأمر شاء منه أن يفعل ذلك، ولكن شاء أن يفعل ذلك ممن علم منه أنه يختار ذلك الفعل ويفعله، ومن علم منه أنه لا يفعل ذلك لا يجوز أن يشاء منه ذلك الفعل؛ وكذلك قول موسى - عليه السلام -: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن اللَّه تعالى إذا أمر أحدا بأمر شاء أن يفعل ما أمره به، لكنه تركه لما لم يشأ هو، واللَّه أعلم. وقد بينا فساد قولهم في غير موضع، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
يحتمل قوله: (أَسْلَمَا) أي: استسلما لأمر اللَّه فيما أمرهما: هذا بالذبح، وهذا بالبذل والطاعة في ذلك.
أو أسلم هذا ابنه وهذا نفسه لله - عَزَّ وَجَلَّ - وأصله: أسلما أنفسهما لأمر الله وإطاعته في ذلك.
وقوله: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، أي: صرعه، وكبه على وجهه، فيه أنه لم يضجعه كما يضجع المرء ما يريد أن يذبحه من الشياه وغيرها، ولكنه أضجعه على وجهه، فهو - واللَّه أعلم - لما أراد أن ينفذ أمر اللَّه ويقدر على أداء ما أمر به، فلعله لو أضجعه على ما يضجع غيره من الذبح نظر كل واحد منهما إلى وجه الآخر، فيرحمه هذا بترك ذبحه وهذا ينظر في