ثم يحتمل سؤاله الملك - واللَّه أعلم - أنه أراد أن يستسلم له الخلق في الإجابة إلى ما يدعو إليه من وحدانية اللَّه تعالى وجعل العبادة له؛ لما رأى أن إجابة الناس وإقبالهم إلى ما عنده من السعة والغناء أسرع ولقوله أقبل ورغبتهم فيه أكثر، وإذا كان ما ذكرنا وهو متعارف فيما بينهم أن إجابتهم -أعني: إجابة الناس- للملوك ولمن عنده السعة والغنى أسرع لهم وأطوع، فكان في سؤاله الملك له نجاة الخلق كلهم بما يستسلمون له ويجيبون إلى ما يدعوهم إليه، فينجون نجاة لا هلاك بعدها، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) يحتمل وجوهًا:
أحدها: أنه سأله ملكًا لا ينزع عنه بعد إذ نزع مرة على ما يقوله أهل التأويل.
والثاني: سأل ربه ملكًا لا يكون لأحد ما بقي وهو حي، فيكون له آية لنبوته على ما ذكرنا؛ إذ لو كان مثله لأحد منهم، لم يكن له في ذلك آية لنبوته.
والثالث: سأله ملكًا ليبقى له الذكر والثناء الحسن؛ كقول الناس: " اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم " ونحوه، فعلى ذلك جائز أن يكون سليمان - عليه السلام - أراد أن يكون مذكورًا على ألسن الخلق بالثناء الحسن بالملك الذي يناله، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦)
بين ما أعطاه من الملك بما ذكر من تسخير الريح له والجن والشياطين وغير ذلك ما لم يكن لأحد من ملوك الأرض سواه، وهذا يدل على أن تسخير هذه الأشياء التي ذكر أنه سخرها لسليمان - عليه السلام - كان بلطف من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يكون ذلك بالحيل؛ إذ لا يملك أحد من الخلائق تسخير ما ذكر من الخلق لنفسه، ولو كان يملك ذلك بالحيل لكان يبغي لذلك مع العلم أن كل ملك لا يترك لنفسه من الحيل ما يزيد من ملكه ويبقيه إلى ما بقي وهو حي، فإذا لم يكن دل أنه إنما كان لسليمان ذلك باللَّه لطفًا منه؛ ليكون آية من آيات النبوة، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ).
وصف تلك الريح باللين والرخوة في هذا الموضع، وقال في آية أخرى: (الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ)، وصفها بالشدة:
فجائز أن تكون هي في أصل الخلقة شديدة، لكنها صارت لسليمان - عليه السلام - لينة سهلة.
وقال قائلون: هي وقت الحمل شديدة، لكنها تصير بالسير لينة سهلة، واللَّه أعلم.