ما ذكر في آية أخرى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، وقوله: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّا) أي: لا نجعل هذا كهذا في هذه الحياة الدنيا؛ فدل ذلك على أن هناك دارا أخرى فيها يقع ذلك التمييز والتفريق، فعلى ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
صرف عامة أهل التأويل ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإلى أبي جهل - لعنه اللَّه - أنه أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يدفع سيئة أبي جهل بالحسنة، لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه لم يذكر أن أبا جهل صار لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما ذكر حيث قال: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، بل دامت عداوته إياه إلى أن خرج على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر وأغرى الناس عليه، فرجع ذلك الإغراء إليه فقتل في ذلك اليوم؛ فدل أنه لا وجه لصرف الآية إلى هذا.
ثم يخرج قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على وجهين:
أحدهما: ادفع سيئتهم في حادث الوقت بحسنة تكون منك إليهم، أي: إذا أحسنت إليهم كفوا هم عن الإساءة إليك في حادث الوقت - واللَّه أعلم - فيكون كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
والثاني: أي ادفع سيئتهم بالعفو والصفح عنهم، أي: لا تكافئهم بمساويهم ولكن تجاوز عنهم واصفح، فإذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، أي: لا يعاد ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
على أمر اللَّه تعالى والقيام بجميع أموره، أو يقول: لا يعطى ولا يؤتى المعاملة التي ذكر ولا يوفق لذلك إلا من عزم على الصبر على ما أمر اللَّه تعالى والصبر على ذلك.
وقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
يقول: ولا يعطى هذه المعاملة التي ذكر من الدفع بالحسنة والصفح عن المجرم إلا من كان له حظ ونصيب عظيم عند اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون الاستعاذة التي ذكر هي مباشرة الأسباب التي بها يدفع نزغ الشيطان ووساوسه، أمره أن يأتي بالأسباب التي يتهيأ له أن يدفع بها نزغاته وغمزاته،