والثاني: إن كان بعوض على ما يقولون يجب أن يعوضهم عوضًا يرضون بذلك العوض، ويكون ذلك العوض مثل ما أخذ منهم، وهم لا يشترطون ذلك دل أن له أن يفعل لهم ما ذكرنا.
وأصله ما ذكرنا: أن الخلق كلهم عبيده وإماؤه، ولكل ذي ملك أن يفعل في ملكه ما شاء، لا لائمة عليه؛ إذ كان له حقيقة الملك؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - إذ له حقيقة ملك الأشياء؛ فله أن يفعل ما يشاء بلا عوض ولا بدل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ليس أحد يصيبه شيء من الشدة والبلاء إلا ويكون في ذلك عفو منه - جل جلاله - لأنه ما من ألم إلا ويتوهم زيادة الألم في ذلك، فيكون منع تلك الزيادة عنه عفوًا عنه وفضلا، وكذلك هذا في هلاك كل شيء من حقوقه ما يقل ويكثر.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي: لا بكل زلة منهم تكون يؤاخذ بها، بل يؤاخذ ببعض، ويتجاوز عنهم في بعض، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ... (٣١) يقول: لا تقدرون الهرب مما يريد أن يصيبكم بزلاتكم وما يريد أن يفعل بكم، ولا لكم ملجأ (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ينصركم ويمنعكم من عذاب اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) يحتمل (آيَاتِهِ) ما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات قدرته وسلطانه، وآيات علمه وتدبيره وحكمته، وآيات نعمه وإحسانه، وهو ما جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في سرية الخشب في السفن معنى لو اجتمع حكماء البشر؛ ليعرفوا ذلك المعنى واللطف الذي جعل في الخشب - ما قدروا على إدراكه، وذلك المعنى واللطف المجعول فيها وما جعل من طبعها السكون على وجه الماء والقرار عليه مع ثقلها وغلظها، وإن كان بدون ذلك الثقل والعظم بكثير من غير جوهر الخشب مما يتسرب في الأرض وينحدر، وكذلك ما يحمل في السفن من الأحمال العظيمة الثقيلة مما طبع كل من ذلك الحمل أن يتسرب وينحدر في الماء لو لم تكن السفن وما ذكر من الخشب، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (كَالْأَعْلَامِ) قال عامة أهل التأويل: أي: كالجبال في البحار.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: الأعلام: الجبال، واحدها علم.