حيث قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) راجع إلى الأذى باللسان؛ من نحو الشتيمة، والسب، والذي لا يؤثر في النفس أثرا، حثهم على المغفرة والعفو، ومدحهم على ذلك.
وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) راجع إلى ما يؤثر في الأنفس والأبدان تأثيرًا من الجراحات وغيرها، حثهم على العفو فيما يرجع إلى الأذى باللسان، وألا يكافئوهم على ذلك، وفيما رجع إلى الأنفس والأبدان جعل لهم الاستيفاء والانتصار، وإن كان ترك الاستيفاء والعفو عن الكل أفضل؛ على ما قال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) سمى الثانية: سيئة وإن لم تكن في الحقيقة سيئة؛ لأنها جزاء السيئة؛ فسمّاها باسم الأولى.
أو سماها: سيئة؛ لأنه لو لم تكن الأولى كانت سيئة ثانية - أيضًا - فسماها على ما هو في نفسها من باب الإضرار والضرر - سيئة في نفسه، وإن كان حسنًا لغيره، واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون سماها بما ذكر؛ لاختلاف الأحوال: هي عند الذي يقتص منه ويُجَازَى بها سيئة، وتلك الحال عنده سيئة، وهو كقوله - تعالى -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، سمى حالة الضيق والشدة: سيئة؛ لأنها عندهم سيئة، وحال السعة والرخاء: حسنة؛ لأنها عندهم حسنة، وإن لم تكن تلك الحال في الحقيقة سيئة، لكنه سماها: سيئة على ما عندهم؛ فعلى ذلك جائز أنه سمى الثانية: سيئة؛ لما هي عند المفعول به سيئة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ) هو ما ذكرنا أنه وإن جعل لهم حق الاستيفاء والانتصار، فالعفو عن ذلك أفضل.
ثم فيه دلالة ألا يجمع بين العفو وأخذ البدل إذا لم يكن من الآخر الرضا بذلك؛ لأنه قال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ) أخبر أنه إذا عفا عنه يكون أجره على اللَّه فليس له أن يأخذ من المعفو عنه شيئًا، واللَّه أعلم.
فهو ينقض على من يقول بأنه يأخذ البدل من الجاني شاء أو أبى، وأن يعفو عنه ويأخذ البدل، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لأنه لا يحب الظلم، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن أخذ ما ليس له أَخْذُه فهو ظالم.