وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) أي: رحمة اللَّه؛ هذا خرج في الظاهر مخرج الأمر، ولكنه في حكم الإباحة عندنا؛ لأن هذا أمر خرج على أثر الحظر، والأصل المجمع عليه عندهم: أن كل أمر خرج على أثر الحظر فهو في حكم الإباحة، وما خرج مخرج الإباحة فإن الحكم فيه يتصرف على تصرف الأحوال، فإن كانت الحالة توجب فرضيته كان فرضًا، وإن كانت توجب واجبا فواجب، وإن أدبا فأدب.
والدليل على أن كل أمر خرج على أثر الحظر، فهو في حق الإباحة - قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)، وقوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، ولم يكن ذلك محمولا على الفرض والحتم الذي لا يجوز تركه، ولكن على إباحة الاصطياد، أي: اصطادوا إن شئتم، وأتوهن إن أردتم، فكذلك يجوز أن يكون المعنى من قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) على ذلك الوجه، وإذا كان الأمر على هذا السبيل صار كأنه قال: فإذا قضيت الصلاة التي نودي لها، فانشروا في الأرض إن أردتم أو إن شئتم، واللَّه المستعان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
يعني: التجارة والكسب، قال: البيع؛ كأنه ينتظم ابتغاء فضل اللَّه، لكن قال فيما خرج مخرج الإذن والإطلاق: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وقال فيما نهى عن ذلك: (وَذَرُوا الْبَيْعَ)، وإن كان المراد منهما جميعًا البيع؛ لأن كان يقبح أن يقول: وذروا ابتغاء فضل اللَّه؛ ولأن ابتغاء الفضل يتضمن البيع وغيره؛ فلا يستقيم أن يقال: " وذروا ابتغاء فضل اللَّه "، فقال هاهنا (وَذَرُوا الْبَيْعَ)؛ ليلحقه النهي خاصة، وأما الإطلاق والإذن، فإنه يستقيم في البيع وغيره، فقال: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، واللَّه المستعان.
وقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، يحتمل وجهين:
أحدهما: اذكروا اللَّه كثيرا بألسنتكم وقلوبكم.
والثاني: اذكروا اللَّه بالإقبال على الطاعات التي فيها تحقق ذكر اللَّه.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، له أوجه:
أحدها: على رجاء الفلاح.
والثاني: أي: لكي تفلحوا.
والثالث: على قطع وجوب الفلاح إذا فعل ذلك؛ بما قالوا: إن (لعل) و (عسى) من اللَّه تعالى واجب.
وقوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١).