البيت كي لا يسكنه، ومن بني لنفسه في الشاهد وهو يعلم أنه لا يسكنه، صار عابثا في فعله، وجل اللَّه تعالى عن أن يوصف بالعبث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
أي: نجني من شر فرعون وجوره، ومن عمله أي: من كفره؛ فيكون قولها: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) راجعا إلى نفسه، والآخر راجعا إلى عمله، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ) راجعا إلى قومه، فسألت النجاة عنهم جملة، لما كانوا يمنعونها عن عبادة اللَّه تعالى، فكانت تخاف ناحيتهم، ولا تأمن وتخاف منهم، فسألت النجاة منهم؛ لتصل إلى عبادة ربها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢).
فأخبر عنها بإحصانها فرجها، وذلك بالأسباب، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس حجابا؛ لئلا يقع بصر الناس عليها، ولا يقع بصرها عليهم لتصل به إلى تحصين فرجها؛ قال اللَّه تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، وهم إذا غضوا الأبصار، وصلوا إلى حفظ الفروج؛ ففي الحجاب غض البصر، وفي غض البصر وصول إلى حفظ الفرج وإحصانه، وقال في آية أخرى: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ)، وتطهيره إياها في أن طهرها من الفواحش والزنى، فأضاف الإحصان إليها في الآية الأولى، وأضاف التطهير هاهنا إلى نفسه، فوجه إضافة الإحصان إليها ما ذكرنا: أنها تكلفت الأسباب التي هي أسباب الموانع للزنى، الدواعي إلى الإحصان، وأضاف إلى نفسه التطهير؛ لأن وقوع ذلك وحصوله كائن به، ففيه دلالة أن كل فعل من أفعال العباد لا يخلو من أن يكون لله - تعالى - فيه صنع وتدبير.
وقوله - تعالى -: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا).
أي: خلقنا فيه ما به تحيا الصور والأبدان.
وقوله: (فِيهِ)، أي: في عيسى، وقال في آية أخرى: (فَنَفَخْنَا فِيهَا)، أي: في نفس عيسى - عليه السلام - والنفس مؤنث.
ثم تشبيهه بالنفخ: أن الروح إذا خلق فيه انتشر في الجسد كالريح إذا نفخت في شيء انتشرت فيه.
أو التشبيه بالنفخ لسرعة دخوله فيما نفخ فيه كالريح، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا).