وليه الصفي، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم، ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه، كان الحق عليهم أن يجازوه بالإحسان؛ فإذا تركوا ذلك، وقابلوه بالتكذيب، اشتد عليه، وحزن لذلك. ثم في قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)، وفي قوله: (وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)، إبطال قول من قال: إن اللَّه تعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو أصلح له؛ لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك، واستجيب له فيما دعا، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان، ويردعهم عن التكذيب؛ لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم؛ فيتركون التكذيب، ويقبلون على الإجابة؛ فيكون فيه نجاتهم عن الهلاك، وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم، فإذا لم يؤذن دل أنه ليس من شرط اللَّه تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم.
فَإِنْ قِيلَ: كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم؛ ليحملهم ذلك على الإسلام، ويمنعهم عن التكذيب؟
قيل له: لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب، امتنعوا عنه، وأجابوا إلى الإسلام كرها؛ فتصير الحجج اضطرارية، لا تمييزية واختيارية، وحجج الرسل - عليهم السلام - اختيارية، لا ضرورية؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية، لارتفعت المحنة؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر؛ لئلا ترتفع المحنة.
فإن قال قائل: إن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - ذكر في كتاب العالم والمتعلم: أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد، ثم قال: فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان، فكيف صار الثواب لهم أكمل، وخوفهم من اللَّه أشد؟
فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة، وقال في جملة ما أجاب: إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل؛ فصار خوفهم باللَّه تعالى ألزم من هذه الجهة.
ولسائل أن يسأل على هذا، فيقول: فإذن إيمانهم باللَّه تعالى، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري؟!
فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء - عليهم السلام - لم يُبَيَّنْ لهم العصمة، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، ولو كانت العصمة له ظاهرة، لكان يستغني عن السؤال.