وصلاحهم؛ ولذلك قال في وقت أذاهم إياه: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
ويحتمل أن يكون هجره إياهم هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة، بل يدفع السيئة بالحسنة؛ كقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة، واللَّه أعلم.
ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف.
ومنهم من قال بأنها لم تنسخ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ، وذلك أن في قوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) منع المكافاة لأجل ما آذوه، ولم يفرض عليه القتال؛ ليكافئهم بأذاهم، وينتقم منهم بذلك؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدِّين؛ ولتكون كلمة اللَّه تعالى هي العليا؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا، ولا نسخ العمل بقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).
الثاني: أنه ليس في قتالهم انتقام منهم، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان باللَّه تعالى ورسوله، واذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب، وفازوا بعظيم الثواب؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة.
ووجه جعله رحمة: هو أنهم إذا رأوا غلبة المسملمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم؛ لاشتغالهم بعبادتهم ربهم، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم - أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب؛ بل اللَّه تعالى هو الذي قواهم عليهم، وقام بنصرهم؛ فيتقرر عندهم كون أهل الإسلام على الحق، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب، وكريم المآب؛ فصار القتال رحمة لهم، لا أن يكون عقوبة عليهم؛ لسوء صنيعهم، وإذا كان كذلك، بقي العمل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) ثابتا باقيا، وبهذا يجاب من سأل فقال: إن اللَّه تعالى يقول لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وفي القتال ترك الرحمة؛ فكيف فرض عليه؟
فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها؛ إذ يحملهم على الإيمان، وترك التكذيب؛ فتعلو منزلتهم، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة، والله أعلم.