لم يقطع عليهم كل المخارج، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكًا وإن كان في ذلك نقصًا وضررًا، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك هم في أنفسهم. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم إن اللَّه دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ثم وصف الصابرين فقال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) وهدى اللَّه عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جعل التوحيد داخلا في ذلك الحرف.
وفيه التبري من أن يكون له في حكم اللَّه تدبيرًا ورأى، وبذل النفسي له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.
وقوله: (إنَّا للَّهِ)، كأنه قال: ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير، وأبدًا يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.
وقوله: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.
وفي ذلك تذكير النفسي عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئًا مما به قوامه إلى مكان قراوه، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.
فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة، وجعل كل شيء منها زائلًا فانيا لينال به الدائم الباقي.
فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشيء وما له يسعى، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه. فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح، لكن البشر - تجبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد، لا أن ينفر عنها. واللَّه المستعان.
فإن قال قائل: هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة؛ إذ قال يعقوب: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) الآية. فهو واللَّه أعلم، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن