جريرته، فتجاوزه عنه أو تأخيره العقوبة، حَمَله على الاغترار؛ إذ ظن أنه يعفى عنه أبدا كذلك؛ فأقدم عليها، وإلا لو حلت به العقوبة وقت ارتكابه المعصية، لكان لا يتعاطى المعاصي، ولا يرتكبها، فعذره أن يقول: الذي حملني على الإغفال والاغترار كرمك أو حمقي، كما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين تلا هذه الآية: " الحمق يا رب.
أو يكون قوله: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي: أي شيء غرك حتى ادعيت على الله تعالى أنه أمرك باتباع آبائك؟! أو تشهد عليه إذا ارتكبت الفحشاء أن اللَّه تعالى أمرك به؛ على ما قال: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، ألم أبعث إليك الرسول؟! ألم أنزل إليك الكتاب فتبين لك ما أمرت به عما نهيت عنه؟!.
وقيل: نزلت الآية في شأن كلدة؛ حيث ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فلم يعاقبه اللَّه - تعالى - فأسلم حمزة حمية لقومه؛ فَهَمَّ كلدة أن يضربه ثانية؛ فنزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) حيث لم يهلكك عند تناولك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
لكن لو كانت الآية فيه فكل الناس في معنى الخطاب على السواء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) ففي ذكر هذا تعريف المنة؛ ليستأدي منه الشكر.
وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر، ولا يجري عليها سلطانهم؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته.
وفيه ذكر حكمته وعلمه؛ ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى؛ لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجوه لا يعرفها الخلق، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا؛ بل خلقهم ليأمرهم وينهاهم، ويرسل إليهم الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ فيلزمهم اتباعها، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها، وتركوا اتباعها، وسنذكر وجه التسوية في قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى): أنه سواه على ما توجبه الحكمة.
أو سواه بما به مصالحه.