ويحتمل الأمر بالكتابة في التداين وجهًا آخر: وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك، أو ينسى بعضه ويذكر بعضًا؛ فأمر اللَّه تعالى بالكتابة؛ لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك بيع العين؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والنسيان يعقب التنازع، والمنازعة توجب التخالف، وفيه الفساد؛ فأمر بالكتابة لدفع ذلك، وللوفاء بالحق، ودفع الخصومات. واللَّه أعلم.
ولا يحتمل أن يفرض الكتابة، وأكثر ما فيه أن يحفظ الحق، ولمن له تركه كذلك ألا يقبضه مع ما ليست في عقد أو فسخ فيكلم فيه بوجوب واختيار، إنما هي للحق، فله فعل ذلك. واللَّه أعلم.
ثم اختلف في الكتابة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي واجبة لازمة. واستدلوا على وجوبها بقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا، أخبر برفع الجناح في التجارة الحاضرة، فلو كانت في المداينة غير واجبة لم يكن لرفع الجناح فيها معنى؛ فدل أنها لازمة في المداينة حيث رفع الجناح في الحاضرة منها.
وأما عندنا: فهي ليست بواجبة؛ لأنه قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا
كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، ثم أمر، قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)، ذكر الرهن بدلًا عن الكتابة، ثم ذكر ترك الرهن بالائتمان. فإذا كان له ترك الرهن بالائتمان، وهو بدل الكتابة - فعلى ذلك له ترك الكتابة بالائتمان، إن كان أصله مفروضا لم يحتمل ترك بدله بالائتمان. فإذا كان ذلك له دل أنه ليس بمفروض ولا لازم. والله أعلم.
وقوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ):
فهذا لأن الكاتب مأمون عليه فيؤدي حق ما اؤتمن فيه، لا يزيد على ما أملى عليه بالنصيحة وأداء الأمانة. وهكذا الواجب على كل محكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والنصيحة وأداء الأمانة، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وكقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وكقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا وذلك أن الكتبة كانوا في صدر الاسلام قليلا، فنهوا عن ترك الكتابة؛ إذ في ذلك بطلان حقوق الناس وذهابها. وأما اليوم فلا بأس بالإبقاء عليها، لم يجد من يكتب له بالأجر؛