والثاني: أنهم سألوا العصمة عن الزيغ والضلال، فلو كان عليه أن يفعل، وأن يبذل لهم العصمة، لم يكن للسؤال عن ذلك معنى؛ فدل أنه تفضل منه ببذل ذلك لهم، والله أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) الآية: فيه وجهان:
أحدهما: أنه لو لم يكن له إلا الأصلح في الدِّين؛ فتركه جور، فالقول بـ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) - لا يخلو من أن يكون الإزاغة أصلح له، وهو يدعو بأن يجور أو لا يكون أصلح، فهو يدعو بأنه لا يجور، ومُحَالٌ الدعاء على خوف الجور؛ ومن خاف جور الخالق فهو غير عارف به.
والثاني: أن الداعي -فيما جبل عليه الخلق- يدعو على أمر أنه لو أجابه لكان لا يزيغ قلبه، وكذلك سؤال العصمة والهداية؛ ولهذا يؤمر به -أيضًا- ولو كان معه زيغ، لكان الأفضل في الأمر بين الدعاء بالإزاغة، وأن " لا تزغ "؛ إذ الخوف مع الأمرين قائم، واللَّه الموفق.
وفي ذلك -أيضًا- وجهان آخران:
أحدهما: أن الإزاغة إذا أضيفت إلى أحد، خرجت مخرج الشتم له والتعيير؛ فثبت أن فيما أضيفت إلى اللَّه - تبارك وتعالى - معنى ليس فيما أضيفت إلى أحد آخر غيره، وهو - واللَّه أعلم - أن الإزاغة من كل أحد فعل هو زيغ بنفسه فيه ذم، ومن اللَّه ليست بذم؛ فيكون فيه أن خلق فعل الزيغ ليس بزيغ، وإن كان فعله زيغا، واللَّه أعلم.
وفيه أن خلق الشيء ليس هو ذلك، والشيء ذاته يكون من اللَّه ما يوصف بالإزاغة، ويصير لديه الآخر زائغا، ولا شيء يوجد يكون كذلك سوى خلق فعل الإزاغة من العبد، واللَّه الموفق.
والثاني: قوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): ولو لم يكن من اللَّه في الهداية سوى البيان، لكان يصح ذلك لكل كافر، ويجوز الإضافة إلى الرسل؛ فإذ لم يصح ذلك ولم يجز، ثبت أن ثم فضلاً، وهو خلق فعل الهداية، والتوفيق الذي معه الاهتداء لا محالة، وباللَّه التوفيق والمعونة.