وقال بعضهم: الوصية واجبة على كل مسلم، لأن الله تعالى قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ، أي فرض عليكم الوصية. وروي عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا حَقُّ امرئ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَةً وَعِنْدَهُ مَالٌ يُوَصِي بِهِ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَه» وقال بعضهم: هي مباحة وليست بواجبة. وقد روي عن الشعبي أنه قال: الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص. وقال إبراهيم النخعي: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر- رضي الله عنه- فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فليس عليه شيء. وقال بعضهم: إن كان عليه حج أو كفارة أي شيء من الكفارات فالوصية واجبة، وإن لم يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص. وبهذا القول نأخذ.
ثم بيّن مواضع الوصية فقال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ. قال مجاهد: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين، فصارت الوصية للوالدين منسوخة.
وروى جويبر، عن الضحاك أنه قال: نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث، وثبتت الوصية لمن لا يرث من القرابة. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، معناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئاً، فأمرهم الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين. ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله: بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، أي واجباً عليهم.
وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ، أي غيّره بعد ما سمع الوصية فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ، أي وزره على الذين يبدلونه ويغيرونه لا على الموصي، لأن الموصي قد فعل ما عليه. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بالوصية عَلِيمٌ بثوابها وبجزاء من غيّر الوصية. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً، أي علم من الموصي الجنف وهو الميل عن الحق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، إذا غيّر وصيَّته فردها إلى الحق، لأن تبديله كان للإصلاح ولم يكن للجور. وقال الكلبي: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً، أي علم من الميت الخطأ في الوصية، أَوْ إِثْماً، يعني تعمداً للجور في وصيته فزاد على الثلث فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي رد ما زاد على الثلث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هكذا قال مقاتل: وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الإضرار في الوصية من الكبائر.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «فَمَنْ خَافَ مِنْ موَصّ» بنصب الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون: بسكون الواو وتخفيف الصاد فمن قرأ بالنصب والتشديد، فهو من وصّى يوصي ومن قرأ بالتخفيف، فهو من أوصى يوصي. وهما لغتان ومعناهما واحد ف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، معناه غفور لمن جنف رحيم لمن أصلح.
سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٧
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)