لكم فيه وأمرتم به. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار، فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئاً، فأصبح صائماً فأجهده الصوم، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر النهار فقال له: «مَا لَكَ يَا ابْنَ قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَليحاً؟» فقال: ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجر بالجرين، حتى أمسيت فأتيت أهلي، فأرادت أن تطعمني شيئاً سخناً فأبطأت علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب، فلم آكل فأصبحت صائماً فأمسيت وقد أجهدني الصوم. فنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ، وهذا أمر أباحه الله وليس بأمر حتم. كقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا المائدة: ٢ وكقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الجمعة: ١٠ . فلفظه لفظ الأمر والمراد به الإباحة. وقد أباح الله الأكل والشرب والجماع إلى وقت طلوع الفجر بقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، أي يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل.
ويقال: في الابتداء لما نزل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود يجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب، حتى يتبين له الأسود من الأبيض. وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال:
أخذت خيطين، فجعلت أنظر إليهما، فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتبسم وقال: «إِنّكَ لَعَرِيضُ القَفَا إِنَّما هُوَ سَوادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» ، فنزل قوله: مِنَ الْفَجْرِ فارتفع الاشتباه. ثم قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي إلى أول الليل وهو غروب الشمس.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ، يقول: ولا تجامعوهن وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، يقول: ولا تجامعوهن وأنتم معتكفون فيها، وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام، فكان الرجل إذا كان معتكفاً فإذا بدا له، خرج بالليل إلى أهله فتغشاها ثم يغسل ويرجع إلى المسجد، فنزلت هذه الآية: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ، أي لا تجامعوهن ليلاً ولا نهاراً وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قال الكلبي: يعني المباشرة في الاعتكاف معصية الله فَلا تَقْرَبُوها في الاعتكاف. وقال الزجاج: الحد في اللغة هو المنع، فكل من منع فهو حداد.
ولهذا سمي حد الدار حداً، لأنه يمنع الغير عن دخولها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ، يعني النهي عن الجماع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف. ويقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي جميع ما ذكر الله تعالى من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره، ونبين لهم الآيات لعلهم يتقون، فينتهون عما نهاهم ويتبعون ما أمرهم.
سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)