قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا، وذلك أنه لما أمرهم الله تعالى بالقتال، شق ذلك على بعض المؤمنين، فنزل قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا، يعني: أظننتم أن تتركوا على الإيمان أيها المؤمنون، ولا تبتلوا بالقتال ولا تؤمروا به. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، يعني:
لم يميز الله الذين جاهدوا مِنكُمْ من الذين لم يجاهدوا. وقد كان يعلم الله ذلك منهم قبل أن يجاهدوا وقبل أن يخلقهم، ولكن كان علمه علم الغيب، ولا يستوجبون الجنة والثواب بذلك العلم، وإنما يستوجبون الثواب والعقاب بما يظهر منهم من الجهاد. ويقال: معناه أظننتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد وبغير تعب النفس؟ وهكذا قال في آية أخرى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة: ٢١٤ . وكما قال في آية أُخرى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا العنكبوت: ٢ الآية.
ثم قال: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ، يعني: لم يتخذوا أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله تعالى ولا رسوله، يعني: ولا من دون رسوله، وَلَا الْمُؤْمِنِينَ، يعني: يميِّزهم من غيرهم، وَلِيجَةً يعني: بطانة من غير أهل دينه، ليفشي إليه سره. وقال الزجاج: الوليجة البطانة، وهي مأخوذة من ولج الشيء في الشيء إذا دخل، يعني: ولم يتخذوا بينهم وبين أهل الكفر خُلَّةً ومودة. ويقال: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يريد الخروج إليهم، وأراد بذلك مودة أهل مكة، وفيه نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الممتحنة: ١ الآية.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، يعني: من الخير والشر والجهاد والتخلف ومودة أهل الكفر.
سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
قوله تعالى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ، قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي مَساجِدَ بلفظ الجماعة، وكذلك الثاني يعني: جميع المساجد. وقرأ الباقون الأول مسجد بغير ألف، والثاني بألف. وروي عن ابن كثير كلاهما بغير ألف، يعني:
المسجد الحرام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأول مسجد بغير ألف، والثاني بألف، يعني:
المسجد الحرام. ومن قرأ مَساجِدَ أيضاً، يجوز أن يحمل على المسجد الحرام، لأنه يذكر المساجد ويريد به مسجدا واحدا، كما قال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ المؤمنون: ٥١ ، يعني به: النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قال تعالى: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، يعني: ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر، يعني: لا ثواب لهم بغير إيمان. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، يعني: بطل