لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، يعني: ذا قرابة في الرحم. مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، يعني: أهل النار وماتوا على الكفر وهم في النار.
ويقال أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يستغفر لأبويه وهما مشركان، واستأذن منه المسلمون أن يستغفروا لآبائهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وقال: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرجنا معه، حتى انتهينا إلى قبر فجلس إليه فناجاه طويلاً، ثم رفع رأسه باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل إلينا، فتلقاه عمر رضي الله عنه فقال: «ما الذي أبكاك يا رسول الله؟» فأخذ بيد عمر وأقبل إلينا، فأتيناه فقال: «أفْزَعَكُمْ بُكَائِي» ؟ فقلنا: نعم يا رسول الله. فقال:
«إنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتُ وَهْبٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَإنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي بِالاسْتِغْفَارِ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لي، فأنزل الله تعالى مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدَ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرِّقَّةِ، فذلك الَّذِي أبْكَانِي» «١» .
وروى أبو هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيَّ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاْستَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهُمَا، فَأَذِنَ لِي» «٢» فنزلت هذه الآية مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية.
ثم قال تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ وذلك أن أباه وعد إبراهيم أن يسلم، فكان يستغفر له رجاء أن يسلم. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: «ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فَلَمَّا مات، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ يعني: ترك الدعاء ولم يستغفر له بعد لأنه مات على الكفر» «٣» . وللآية هذه وجه آخر: روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حرب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: «يَا عَمِّ، قُلْ لا إله إِلا الله كَلِمة النَّجَاةِ، أشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى» . فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يعرضها عليه ويعانده أبو جهل بتلك المقالة، حتى قال أبو
(١) عزاه السيوطي: ٤/ ٣٠٢ إلى ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، وابن ماجة (١٥٧١) والحاكم ٢/ ٣٣٦ وأصله في مسلم (٩٧٦) (١٠٨) وأبي داود (٣٢٣٤) وابن ماجة (١٥٧٢) والبيهقي: ٤/ ٧٦.
(٢) حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم (٩٧٦) وأبو داود (٣٢٣٤) والنسائي: ٤/ ٩٠ وابن ماجة (١٥٧٢) والبيهقي ٤/ ٧٦ وأحمد ٢/ ٤٤٢ والبغوي (١٥٥٤) .
(٣) عزاه السيوطي: ٤/ ٣٠٠ إلى الطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم والترمذي والنسائي وابن مردويه.