مَكاناً قَصِيًّا
، يعني: انفردت بولادتها مكاناً بعيداً. قال القتبي: القصيُّ أشد بعداً من القاصي.
ثم قال: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ، يعني: جاء بها وألجأها المخاض، يعني: الطلق بولادة عيسى عليه السلام إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ، أي: أصل النخلة قال ابن عباس: النخلة اليابسة في شدة الشتا، يعني: الطلق. قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا، يعني: شيئاً متروكاً لم أذكر، ويقال للشيء الحقير الذي إذا ألقي ينسى نسيٌ. وقال قتادة: يعني، لا أعرف ولا أدري من أنا. وقال عكرمة: يعني: جيفة ملقاة، وهكذا قال الضحاك. وقال ربيعة بن أنس: يعني سقطاً. قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص نَسْياً بنصب النون والباقون نَسِيّاً بكسر النون، قال أبو عبيد: وبالكسر نقرؤها، لأنها كانت أكثر في لغة العرب وأفشاها، وعليها أهل الحرمين والبصرة.
ثم قال عز وجل: فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ حمزة والكسائي ونافع وعاصم في رواية حفص مِنْ تَحْتِها بكسر الميم، يعني: الملك، وهكذا قرأ مجاهد والحسن، وقرأ الباقون مِنْ تَحْتِها بالنصب يعني به عيسى عليه السلام وقال أبو عبيد: بالأولى نقرأ يعني: بالكسر، لأن قراءتها أكثر والمعنى فيها أعمّ، لأنه إذا قال: مِنْ تَحْتِها بالكسر فقد احتمل أن يكون الملك، ويكون عيسى. وإذا قرأ مِنْ تَحْتِها فإنما هو عيسى خاصة. أَلَّا تَحْزَنِي بولادة عيسى ومكان الحدث، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا يعني: نهراً صغيراً بحبال ويقال: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أي بيتاً، فذكر هذا القول عند ابن حميد فأنكره وقال: هو الجدول. ألا ترى أنه قال:
فَكُلِي وَاشْرَبِي. قال مجاهد: السريّ بالسريانية، وقال سعيد بن جبير: بالنبطية.
ثم قال عز وجل: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ يقول: حركي أصل النخلة تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، يعني: غضاً طرياً. قرأ حمزة تُساقِطْ بنصب التاء وتخفيف السين، وأصله تتساقط إلا أنه حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف وهذا كقوله: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ النساء:
٤٢ وأصله تتسوى، وكقوله تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ البقرة: ٨٥ ، وكقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الفرقان: ٢٥ وقرأ عاصم في رواية حفص تُساقِطْ بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف يعني: أن النخلة تساقط عليك، وقرأ الباقون بنصب التاء وتشديد السين ونصب القاف، لأن التشديد أقيم مقام التاء التي حذفت. وروي عن البراء بن عازب أنه كان يقرأ يُسَاقِط بالياء يعني: أن الجذع يساقط عليك، وقرأ بعضهم: نُسَاقِطُ بالنون ومعناه: ونحن نساقط عليك، وروي أنها كانت نخلة بلا رأس، وكان ذلك في الشتاء، فجعل الله عز وجل لها رأساً، وأنبت فيها رطبا، فذلك قوله عز وجل: تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً أي غضاً طرياً.
قيل لها: فَكُلِي من الرطب، وَاشْرَبِي من النهر، وَقَرِّي عَيْناً يعني: طيبي نفساً بولادة عيسى عليه السلام. وقال الربيع بن خيثم: «ما للنفساء عندي دواء إلا الرطب، ولا للمريض إلا العسل» .