ثم قال عز وجل: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ، يعني: على ما يقول أهل مكة من تكذيبهم إياك. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، يعني: صلّ لربك وبمحمد ربك وبأمر ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني: صلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها يعني: صلاة العصر، ويقال: صلاة الظهر والعصر. وروى جرير، عن عبد الله البجلي، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» «١» - يعني: لا تزدحمون، مأخوذ من الضم أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته بظهوره كما في رؤية الهلال. ويروى: لا تضامون بالتخفيف وهو الضم أي: الظلم، أي: لا يظلم بعضكم في رؤيته بأن يراه البعض دون البعض- «فَإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا عَنِ الصَّلاةِ قَبْلَ طلوع الشمس وقبل غروبها فَافْعَلُوا» . ثم قرأ هذه الآية وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها على معنى التأكيد للتكرار.
ثمّ قال: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، يعني: ساعات الليل. فَسَبِّحْ، يعني: صلاة المغرب والعشاء، وَأَطْرافَ النَّهارِ يعني: غدوة وعشية على معنى التأكيد للتكرار. لَعَلَّكَ تَرْضى يعني: لعلك تعطى من الشفاعة حتى ترضى. قرأ الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ترضى بضم التاء، على فعل ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون بالنصب يعني: ترضى أنت. وقال أبو عبيدة: وبالقراءة الأولى نقرأ يعني: بالضم، لأن فيها معنيين، أحدهما: ترضى أي: تعطى الرضا، والأخرى: ترضى أي يرضاك الله. وتصديقه قوله تعالى: وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا مريم:
٥٥ وليس في الأخرى وهي القراءة بالنصب، إلا وجه واحد.
ثم قال عز وجل: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ، يعني: لا تنظر بالرغبة إلى ما أعطينا رجالاً منهم من الأموال والأولاد. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، يعني: فإنه زينة الدنيا.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، يعني: لنبتليهم بالمال وقلة الشكر. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى، يعني: جنة ربك خَيْرٌ من هذه الزينة التي في الدنيا، وَأَبْقى أي: وأدوم.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن الفضل. قال: حدثنا محمد بن جعفر.
قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف. قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي رافع قال: نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضيف فبعثني إلى يهودي أن يبيعنا أو يسلفنا إلى أجل، فقال اليهودي: لا والله إلاَّ بِرَهْنٍ. فرجعت إليه فأخبرته فقال: «لَوْ بَاعَنِي أوْ أْسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ وإنِّي لأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَأمِينٌ فِي الأَرْضِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الحَدِيدِيِّ» «٢» ، فذهبت بها، فنزل من بعد هذه
(١) أخرجه البخاري (٥٧٣) و (٧٤٣٤) و (٧٤٣٥) ومسلم (٦٣٣) وأبو داود (٤٧٢٩) والترمذي (٢٥٥١) وابن ماجة (١٧٧) وأحمد ٤/ ٣٦٢.
(٢) عزاه السيوطي: ٥/ ٦١٢ إلى ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة.