لعبد الله: نزلت فيك، آيٌ شديدةٌ (١)، فأت محمداً واعتذر إليه يستغفر لك، فجعل يلوي رأسَه، أي: لست أفعل ذلك (٢).
ومعنى لوَّى رأسه: أعرض عن الشيء أَنَفةً عنه. وقيل: حرَّك رأسه (٣).
والتَّشديد للتكرير، والتخفيف للعموم (٤).
{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)}: أي: يعرضون متكبّرين عن الاعتذار وعن مسألة النبيّ الاستغفار.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}:
أي: لن يغفر الله (٥) لهم ماداموا مُصِرِّين على النِّفاق.
وقيل: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستغفرُ لهم فنزلت هذه الآية.
وقيل: هذا بعد موت عبد الله (٦).
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦)}.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}: يتفرقوا.
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أي: أنه يرزق المهاجرين لا هؤلاء وهو يرزق المؤمنين والكافرين جميعاً.
ابن عيسى: "خزائن الله: مقدوراته التي يُخرج منها ما يشاء " (٧).
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧)}.
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ}: عنى به نفسَه.
{مِنْهَا}: من المدينة {الْأَذَلَّ}: يعني به محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}: بإعزاز كلمته وإظهار دينه.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ}: بنصر الله إيّاهم على من ناوأهم.
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨)}: أنهم لا يقدرون على إخراج الرسول.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}: أي: لا يشغلكم عن الصلوات الخمس.
والتقدير: لا تلهوا بها عن ذكر الله، فنسب الفعل إليها، والدليل عليه قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}: أي: اشغل بشيءٍ من ذلك عن (٨) ذكر الله (٩).
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩)}: والمعنى (١٠): لا تؤثروا حبَّها على ما فيه فلاحُكم، فإن من بخس نفسَه حقَّها، فقد خسر خُسراناً مبيناً.
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: اجعلوا المالَ فِداءَ أنفسكم وأدّوا الزكاةَ.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: أي: أسبابُه ويصيرَ إلى حال اليأس.
{فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا}: هلاّ {أَخَّرْتَنِي}: أمهلتني.
{إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}: أي: أبقني زماناً غيرَ طويلٍ.
{فَأَصَّدَّقَ}: أَتصدّق وأُزكي وأُنفق مالي في طاعتكَ كما أمرتَ.
{وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠)}: ابن عبّاس: " أحجُّ " (١١).
الضحاك: "لا ينزلُ بأحدٍ الموتُ لم يحجج ولم يودّ الزكاةَ إلاّ سألَ الرجعةَ، وقرأ هذه الآية " (١٢).
قرئ بالجزم عطفٌ على محلّ {فَأَصَّدَّقَ}، وبالنصب عطفاً على اللفظ (١٣).
(١) في (أ) " آي شديدٌ ".
(٢) انظر: النُّكت والعيون (٦/ ١٦)، الجامع لأحكام القرآن (١٨/ ١٢٣).
(٣) انظر: المفردات (ص: ٧٥٢)، مادة " لَوَى "، لسان العرب (١٥/ ٢٦٣)، مادة " لَوِيَ ".
(٤) يشير إلى القراءتين الصحيحتين في الآية، فالتشديد للواو في {لَوَّوْا} قراءة الجمهور، وقرأ نافعٌ وحده {لَوَوا} مخفَّفة. انظر: جامع البيان (٢٨/ ١٠٨)، السَّبعة (ص: ٦٣٦)، الحُجَّة (٦/ ٢٩٢).
(٥) لفظة " الله " ساقطة من (ب).
(٦) انظر: المحرر الوجيز (٥/ ٣١٤)، البحر المحيط (١٠/ ١٨٢).
(٧) انظر: لم أقف عليه.
(٨) " ذلك عن " ساقطة من (أ).
(٩) وهو قول الضحاك وعطاء انظر: جامع البيان (٢٨/ ١١٧)، النُّكت والعيون
قلت: والأولى حمله على العموم، قال ابن جزي: " وذكر الله هنا على العموم في الصلاة والدعاء والعبادة، وقيل: يعني الصلاة المكتوبة والعموم أولى" التسهيل (٤/ ١٢٣)، وقال أبو حيَّان: "هو عامٌّ في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتَّسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء " البحر المحيط (١٠/ ١٨٤).
(١٠) في (ب) " المعنى ".
(١١) انظر: تفسير الثعلبي (٩/ ٣٢٣)، الجامع لأحكام القرآن (١٨/ ١٢٦). قال ابن العربي: " أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل، وهو الصحيح لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل، وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموماً وتقديراً بالمائتين، وأما القول في الحج ففيه إشكال لأنَّا إن قلنا إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء بيّناه في أصول الفقه فلا تخرَّج الآية عليه.
وإن قلنا إن الحجَّ على الفور فالآية على العموم صحيح؛ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم يؤدّه لقي من الله ما يودّ أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات " أحكام القرآن؛ لابن العربي (٤/ ٢٥٩).
(١٢) انظر: جامع البيان (٢٨/ ١١٨)، تفسير البغوي (٨/ ١٣٤).
وتمام هذا القول وأصله ما أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة المنافقين، برقم (٣٣١٦) عن الضحاك عن بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة؛ فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا بن عباس اتق الله، إنما سأل الرجعة الكفار.
قال: سأتلو عليك بذلك قرآناً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} إلى قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١١)} قال فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعداً، قال: فما يوجب الحج؟ قال الزاد والبعير ".
(١٣) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {وَأَكُنْ} جزماً بحذف الواو، وقرأ أبو عمرو {وَنَكُونَ} بواو. انظر: جامع البيان (٢٨/ ١١٨)، السَّبعة (ص: ٦٣٧)، معاني القراءات (ص: ٤٩١).