سورة الجنِّ (١)
ثمان وعشرون آية (٢) (٣) مكية (٤)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ}: يا محمد أي: أخبر قومَك ما ليس لهم به علمٌ , ثم بيّن.
فقال: {أُوحِيَ إِلَيَّ}: أُخبرت بالوحي من الله.
{أَنَّهُ}: أن الأمرَ والشأنَ.
{اسْتَمَعَ}: أي: استمع القرآن، فحُذف؛ لأن ما بعده يدلُّ عليه.
والاستماع: طلب السماع بالإصغاء إليه.
{نَفَرٌ}: جماعة. والنفر: من الثلاثة إلى العشرة (٥).
ابن عباس - رضي الله عنهما -: كانوا سبعة (٦).
غيره: كانوا تسعة (٧).
{مِنَ الْجِنِّ}: الجنّ: جيل رِقاق الأجسام خفيّة , خُلق من النار، على صورة تخالف صورة الملَك والإنسان , موصوف بالعقل كالإنس والملك , ولا يظهرون للإنس ولا يكلِّمون إلَاّ صاحبَ (٨) معجزة , بل يوسوسون سائرَ الناس.
وهم أولاد إبليس , منهم مؤمن ومنهم كافر , والكافر منهم يسمى شيطاناً (٩).
ابن عباس- رضي الله عنهما -: " الجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين، والشياطين أولاد إبليس " (١٠).
وقد سبق في ذكر ليلة الجنّ في سورة الأحقاف (١١).
ونذكر ها هنا خبراً رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما , عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال: ما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنّ وما رآهم , انطلق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ , وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السَّماء , فرجعت الشياطين إلى قومهم , قالوا: مالكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السَّماء , وأُرسلت علينا الشهبُ , قالوا: ما ذاك (١٢) إلا من شيءٍ حدث في ... الأرض , فاضربوا مشارقَ الأرض ومغاربَها , فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحوَ تهامة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا بالقرآن (١٣) استمعوا له , وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السَّماء , فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: إنَّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً "، فأوحى الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (١٤). مبايناً لكلام الخلق في النظم والمعنى ,لا يقدر أحد على الإتيان بمثله (١٥).
والعجب: ما يكون خارجاً من العادة المعروفة (١٦).
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}: يدعو إليه ويدل عليه.
و {الرُّومُ}: صلاح الأمر من جميع جهاته (١٧).
وقيل: إلى الإيمان والتوحيد (١٨) (١٩).
{فَآَمَنَّا بِهِ} {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢)}: أي إبليس (٢٠).
وقيل: الصنم، كما كنا نشرك قبله.
استدل بعضهم بالآية على أنهم كانوا كافرين.
وقال بعضهم: تقديره: كما أشركت العرب.
وقال بعضهم: كانوا هوداً؛ لقولهم: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}، الأحقاف: ٣٠.
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}: عظمة ربنا , جلال ربنا، غناء ربنا عن الصاحبة والولد , أمر ربنا , مُلك ربنا وسلطانه، وقدرة ربنا (٢١) , هذا كله أقوال (٢٢).
(١) وهو اسمها، وبه سُمِّيت في المصاحف وكتب السُّنة والتفسير لقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (١)} وقوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦)}، وتسمَّى أيضاً سورة " قل أوحي " وبها ترجم البخاري في كتاب التفسير " سورة قل أوحي ". انظر: بصائر ذوي التمييز (١/ ٤٨٤)، التحرير والتنوير (٢٩/ ٢١٧).
(٢) " ثمان وعشرون آية " ساقطة من (ب)، وفي (أ) " اثنا وعشرون "، وهو خطأ.
(٣) في عدِّ الجميع، بلا خلافٍ. انظر: البيان؛ للداني (ص: ٢٥٦)، بصائر ذوي التمييز (١/ ٤٨٤)، غيث النفع (ص: ٢٩٣).
(٤) وقد حكى الإجماع ابن عطية في المحرر الوجيز (٥/ ٣٧٨)، وابن الجوزي في زاد المسير (٨/ ١٢٩).
(٥) انظر: تفسير السَّمرقندي (٣/ ٤٨٠)، تفسير السَّمعاني (٦/ ٦٣).
(٦) انظر: جامع البيان (٢٦/ ٣٠)، تفسير البغوي (٧/ ٢٦٩).
(٧) وهو مروي عن زرِّ بن حبيشٍ وغيره. انظر: جامع البيان (٢٦/ ٣١)، تفسير السَّمرقندي (٣/ ٢٧٨).
(٨) في (أ) " ولا يكلمون هم إلا صاحب ".
(٩) انظر: غرائب التفسير (٢/ ١٢٥٩)، المفردات (ص: ٢٠٣)، مادة " جَنَّ ".
(١٠) انظر: النُّكت والعيون (٦/ ١٠٩).
(١١) انظر: (ص: ٤٦٠).
(١٢) في (ب) " ذلك ".
(١٣) في (ب) " سمعوا بالقرآن ".
(١٤) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الجهر بقراءة صلاة الفجر، برقم (٧٧٣)، وأخرجه في كتاب التفسير، باب: سورة، برقم (٤٩٢١)، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجنِّ، برقم (١٠٠٥).
(١٥) انظر: النُّكت والعيون (٦/ ١٠٩)، البحر المحيط (١٠/ ٢٩٣).
(١٦) انظر: المفردات (ص: ٥٤٧)، مادة " عَجِبَ "، التعريفات (ص: ١٠٥).
(١٧) انظر: لسان العرب (٣/ ١٧٥)، مادة " رَشَدَ ".
(١٨) في (ب) " التوحيد والإيمان ".
(١٩) انظر: تفسير السَّمرقندي (٣/ ٤٨٠)، تفسير البغوي (٨/ ٢٣٥).
(٢٠) انظر: تفسير السَّمرقندي (٣/ ٤٨٠)، زاد المسير (٨/ ١٣٠).
(٢١) في (ب) "قدرة ربنا ".
(٢٢) انظر: جامع البيان (٢٩/ ١٠٣)، النُّكت والعيون (٦/ ١١٠). قال ابن جرير - رحمه الله -: " وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال عني بذلك: تعالت عظمة ربنا وقدرته وسلطانه، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأنَّ للجدِّ في كلام العرب معنيين:
أحدهما: الجد الذي هو أبو الأب، أو أبو الأم، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم قد قالوا: {فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}، ومن وصف الله بأن له ولداً أو جداً أو هو أبو أب، أو أبو أم، فلا شك أنه من المشركين.
والمعنى الآخر: الجدُّ الذي بمعنى الحظُّ، يقال: فلان ذو جَدِّ في هذا الأمر إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البخت، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النفر من الجن بقيلهم: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} إن شاء الله، وإنما عنوا أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة والعظمة عالية فلا يكون له صاحبة ولا ولد لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد فقال النفر من الجن علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وقاع شيء يكون منه ولد " جامع البيان (٢٩/ ١٠٥).