وقالوا: كانوا في الجاهليَّة في المواسم عند اجتماعِ النَّاس وتوافرِ القبائل، يتفاخرون بآبائهم، ويُعددون إيَّامَهم، ويَذكرونَ محاسنَهم، يريدُ كلُّ واحدٍ منهم الشُّهرةَ لنفسِه، والتَّرفُّعَ بمآثرِ سلفِه بعرفات ومنى وغير ذلك، قال جريرٌ يخاطِبُ الفرزدق:
ألم تر أنَّ اللَّهَ أخزى مُجاشِعًا... إذا ضمَّ أحياءَ الحجيجِ المُعَرَّفُ (١)
وقال الفرزدقُ يخاطبُ جريرًا:
وإنَّك لاقٍ بالمشاعرِ من مِنى... فخارًا فخبِّرني بمَنْ أنْتَ فاخِرُ (٢)
فلمَّا جاء الإسلامُ نهاهُم اللَّهُ تعالى عن ذلك، وأمَرهم أنْ (٣) يَجعلوا بدلَ ذكرِهم آباءَهم ذكرَ اللَّهِ تعالى وتمجيدَهُ والثَّناءَ عليه بنعمِه؛ إذ الخيرُ كلُّه مِن عندِه، وآباؤهم عبيدُه، ونالُوا ما نالوا بإفضالِه.
وقال الحسن البصري رحمه اللَّه: معناه: اذكروني كما يَذكُرُ الصَّغيرُ أباهُ، فإنَّه أول ما يَتكلَّمُ يقول: يا أب، يا أب، فعلى كلِّ مسلمٍ أن يقولَ على الدَّوام: يا رب، يا رب.
وقيل: اذكروني بالوحدانيَّة كما يَذكرُ الولدُ أباه، فإنَّه لا يَرضى بأنْ يُذكَر له أبوان، فلا يَنبغي للعبدِ أنْ يَسكُتَ إذا قيل: ربَّان.
وقيل لابن عباس رضي اللَّه عنهما في هذه الآية: إنَّ الرجلَ ليأتي عليه زمانٌ ما يَذكُرُ أباهُ، قال: إنَّه ليس بذلك، ولكنَّه يقول: تغضبُ للَّه تعالى إذا عُصِيَ أشدَّ مِن غضبِك لوالدِك إذا ذُكِرَ بسوءٍ (٤).
(١) انظر: "ديوان جرير" (ص: ٩٢٩)، وفيه: "أفواج" بدل: "أحياء".
(٢) انظر "شرح ديوان الفرزدق" (٢/ ٤٣٨)، وفيه: "بالمحصب" بدل: "بالمشاعر".
(٣) في (ف): "بأن".
(٤) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٢/ ٣٥٥) (١٨٦٩).