وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قيل: أي: مِن مقابحِ هؤلاء، ولا تَنظُر إلى قلَّةِ المقتصدين منهم وكثرةِ الفاسقين.
وقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} قرأ عاصمٌ في رواية أبي بكرٍ ونافعٌ وابنُ عامر: {رِسَالَتَهُ} على الجمع، والباقون على الواحد (١).
قالت الملاحدةُ -لعنهم اللَّه-: هذا كلامٌ لا يُفيد، وهو كقولِك لغلامِك: كلْ هذا الطَّعامَ، فإنْ لمْ تَأكلهُ فإنَّك ما أكلتَهُ.
قلنا: هذا قصورُ فهمٍ منكم، وبلادةُ طبع، وقلَّة معرفةٍ بكلام النَّاس، وله وجوهٌ صحيحةٌ:
أحدُها: أنَّ قولَه: {مَا أُنْزِلَ} للعموم، ومعناه: بلِّغ جميعَ ما أُنزِل إليكَ؛ فإنْ لم تُبَلِّغ شيئًا منه فإنَّك (٢) لم تبلِّغ رسالاتي كلَّها، وهو كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} النساء: ١٥٠، ثمَّ قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} النساء: ١٥١، جعلَ الكفرَ ببعضٍ محبطًا أصلَ الإيمان. قاله عليُّ بن مهدي الطبريُّ (٣).
والثاني: قول الحسين بنُ الفضل البجليُّ رحمه اللَّه: معناه: بلِّغ ما أنزل إليك من ربِّك الآن، ولا تَنتظر به كثرةَ الشَّوكةِ والقُوَّة والعُدَّة، فإن لم تُبلِّغ كنتَ كمَن لم يُبلِّغ.
(١) انظر: "السبعة" (ص: ٢٤٦)، و"التيسير" (ص: ١٠٠).
(٢) في (ر) و (ف): "فكأنك".
(٣) هو أبو الحسن، علي بن محمد بن مهدي، تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري، كان من المبرزين في علم الكلام، والقوامين بتحقيقه، له كتاب "تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات". انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" (٣/ ٤٦٦ - ٤٦٧).