وقال القشيريُّ: طَلبوا المائدةَ لِتسكُنَ قلوبُهم، وكلٌّ يَطلُب على قدرِ حالتِه، فمِنهم مَن كان سكونُه في مائدةٍ مِن المطاعمِ يَجِدُها، ومنهم مَن كان سكونُه في مائدةٍ مِن المواردِ يَرِدُها، ومنهم عزيز، مَنْ يَجِدُ الغِنى عن برهانٍ يتأمَّلُه، أو بيانٍ يَتطلَّبُه.
وقال: شتَّانَ بين أمَّةٍ طلبَ نبيُّهم لهم سُكونًا بإنزال المائدةِ عليهم، وبين قومٍ بَدأهم اللَّهُ تعالى بإنزالِ السَّكينةِ عليهم مِن غير سؤالِ أحدٍ في حقِّهم.
وقال: لمَّا وعدَهم الإنزالَ حذَّرَهم العذابَ، ليَعلمَ العالِمون أنَّ المرادَ إذا حصلَ، فالخطرُ أشدُّ، والحالُ مِن الآفة أقربُ، ومهما كانت الرُّتبة أعلى كانت الآفةُ أخْفى (١).
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قيل: انتظامُها بقوله: {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ}، ويقول لعيسى هذا يومَ القيامة، وما بينهُما بيانُ شرفِ عيسى، وأنَّه مع منزلتِه هذه يُخاطَب يوم القيامةِ بهذه الهيئة.
وقال السُّدِّيُّ وقطرب: قال اللَّه تعالى له ذلك حين رفعَهُ إلى السَّماء (٢).
وقال الإمام أبو منصور رحمه اللَّه: يحتمل هذا ثلاثةَ أوجه:
أحدُها: أنَّه كان وهو في الأرضِ بين أظهرِهم؛ ليكون ذلك حجَّةً لمن اتَّبعَه على مَنْ زاغَ عن طريقته؛ لأنَّه تبرَّأ أنْ يكونَ قال لهم ذلك.
ويَحتملُ أنَّه قال له ذلك حين رفعَهُ إلى السَّماء، وقرَّرَ عندَه أنَّ قومَه يقولون ذلك بعد مفارقتِه.
ويَحتمل أنَّه يقول ذلك يوم القيامةِ، ويكونُ {قَالَ} بمعنى: يقول، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} غافر: ٤٩ (٣).
وأكثرُهم على هذا؛ لأنَّ ما قبلَهُ، وهو قولُه تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ}، وما
(١) انظر: "لطائف الإشارات" للقشيري (١/ ٤٥٥ - ٤٥٦).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٩/ ١٣٣) عن السدي.
(٣) انظر: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (٣/ ٦٥٢ - ٦٥٣).