الرجلُ أباه وأمَّه وأخته وأخاه، فيقولون: إن النار قد أَعْمت أبصارنا، إن النار قد أَصمَّت أسماعنا، إن النار قد أَنضجت جلودَنا، إن النار قد اطَّلعت على قلوبنا، وإنا خرجنا من الدنيا عطاشًا، وسكنَّا القبور عطاشًا، وخرجنا من القبور عطاشًا، وقد قطع العطش اليومَ حلوقَنا، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللَّه، فيقول أهل الجنة: إن اللَّه حرَّمهما على الكافرين.
وقال الإمام القشيريُّ رحمه اللَّه: انظر كيف لا يسقيهم قطرةً، مع استغنائه عن تعذيبهم، وقدرته على أن يعطيَهم ما يريدون، ولكنْ قهرُ (١) الربوبية، والعزَّةُ الأحدية، وأنه فعَّال لِمَا يريد؛ فكما لم يرزقهم اليوم من عرفانه ذرة، لا يسقيهم غدًا في تلك الأحوال قطرة، وفي معناه أنشدوا:
وأَقْسَمْنَ لا يَسقيننا الدَّهرَ قطرةً... ولو زخَرت (٢) من أرضهنَّ بحورُ
قال: ويقال: إنما الْتَمسوا الماء ليبكُوا به؛ لأنَّه نفدت دموعهم، وفي هذا المعنى أنشدوا:
يا نازحًا نَزَحَتْ (٣) دَمْعي قَطِيعتُه... هَبْ لي من الدَّمع ما أبكي عليك به
وفي معناه أنشدوا أيضًا:
نَزَف البكاءُ دموعَ عينك فاسْتَعِرْ... عينًا لغيرك دمعُها مِدْرارُ
مَن ذا يُعيرك عينَه تبكي بها... أرأيتَ عينًا للبكاء تُعار (٤)
(١) أي: (ولكن هو قهرُ. . .)، فكلمة "قهر" خبر لمبتدأ محذوف، ولفظ "اللطائف": (ولكنه قهر).
(٢) في (ر): "زحرت"، وفي "اللطائف": (فجرت).
(٣) في (أ): "قرحت"، وفي "اللطائف": (نزفت).
(٤) انظر: "لطائف الإشارات" (١/ ٥٣٨).