ثمَّ انصرفَتِ النِّسوةُ عنها على ذلك وتركْنَها، وراودَتْهُ عن نفسِهِ وجهدَتْ عليه، ولم يزددْ منها إلَّا بُعدًا، فلمَّا يئسَتْ منه قالَتْ لسيِّدِها: قد شاعَ عليَّ في أمر هذا العبد مقالةٌ قبيحةٌ، وقد فضحني ذلك، وقد كرهْتُ قربَه، وأبغضْتُ رؤيتَه، فائذَنْ لي في سَجنِه حتَّى يكونَ سَجنُه مِن تحتِ يديَّ، فإنَّه أقطعُ للمقالةِ، وأبينُ للعذرِ، فقال لها سيِّدُها: قد أذنْتُ لك في سَجنِه.
* * *
(٣٣) - {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ}: أي: يا ربِّ {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أضافَ الفعلَ إلى جميع هؤلاء النِّسوة؛ لِمَا مرَّ أنَّهنَّ شُغفْنَ به، ودعتْهُ كلُّ امرأةٍ منهنَّ إلى نفسِها.
وقيل: إنَّهنَّ حرَّضْنَه على إجابةِ زليخا، ودعوْنَه إلى ذلك.
وقوله تعالى: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}: أي: أمِلْ إليهنَّ، وقد صَبا يَصْبُو صَبْوةً، وحذفت الواو من {أَصْبُ} للجزْم؛ لأنَّه جواب الشَّرط.
{وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} باتِّباع الهوى، وهذا سؤالٌ منه العِصمةَ مِن ذلك بألطفِ وجهٍ.
وقال الإمام القشيريُّ رحمه اللَّه: الاختبارُ مقرونٌ بالاختيار، ولو تمنَّى العافية وسألَها (١) وجدَ العافيةَ، ولكنْ آثرَ السِّجنَ على ذلك فسُجِنَ.
وقالوا: هذا عينُ التَّوحيد، حيثُ رأى أنَّ المعصومَ مَن عصمَه اللَّهُ تعالى، فإنَّ نجاتَه بصرفِ اللَّهِ تعالى ذلك لا بتكلُّفِه، ولمَّا آثر تحمُّلَ المشقَّة في اللَّهِ تعالى على
(١) في (ر): "فينالها"، وفي (ف): "ومثالها".