وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}: قال ابنُ إسحاق: قال مالك مصر -وهو الوليد بن الريَّان لمَّا أخبرَ النِّساءُ بما أخبرْنَ-: جيئوني به أجعلْهُ خالصًا لنفسي، أفوِّض إليه أمورَ مملكتي؛ لِمَا ظهرَ مِن علمِه وصلاحِه.
وهاهنا مضمرٌ: فأُتي به {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}: قريبُ المكانة ظاهرُ الأمانة.
وقال الإمام القشيريُّ رحمه اللَّه: لمَّا اتَّضحَ للملِكِ طهارةُ حسِّه ونزاهةُ عينه، استحضرَهُ لاستصفائِهِ لنفسِهِ، واختصاصِهِ لأُنسْهِ، فلمَّا كلَّمَه وسمع بيانَه رفعَ محلَّه ومكانَه، وضمن براءَتَه وإحسانه، فقال: إنَّك اليوم مكينٌ (١) أمينٌ على خزائن الأموال (٢).
وفي القصَّة: أنَّه بعثَ سبعين حاجبًا وسبعين مركبًا لاستحضاره، وبعث إليه لباسَ الملوك وتاجَ الملوك، فلبس الثِّياب وتوِّج التَّاج، وخرجَ ليركب، وقام إليه أهل السِّجن يبكون لفقدِه، وكانوا أَنِسُوا به، وأَلِفُوا برَّه وإحسانَه، فدعا لهم فقال: أعطاكُمُ اللَّهُ الصَّبرَ واليقينَ وثوابَ الشَّاكرين، وطهَّرَكم من الذُّنوب، وآمَنكم من الهوامِّ والعقارب والحيَّات.
وقالَ حينَ خرج: اللَّهمَّ عطِّفْ عليهم قلوبَ الأخيار، وقصِّر عليهم النَّهار، ولا تقطع عنهم الأخبار.
ولمَّا خرجَ كتب على باب السِّجن: هذه منازل البلوى، وجهنَّم الدُّنيا، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء (٣).
(١) في (أ) و (ر): "عندنا ذو جاهٍ وحال" بدل "مكين".
(٢) انظر: "لطائف الإشارات" (٢/ ١٩٠).
(٣) روى نحوه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (١/ ١٤٨ - ١٤٩) عن وهب.