فيقول: غدُّونا، عشُّونا، أسرِجوا لي دابته، أعطُوني ثوبه، فيفعلون ذلك، فيجيءُ الرجل فيقول له أهله: جاء أخوك فلان فغدَّيناه وعشَّيناه، وأسرَجْنا له دابَّتك، وأعطيناه ثوبك، فلا يقع في قلبه إلا كما لو قيل له: جاء أبوك أو أخوك أو عمك ففعلنا به ذلك، فذلكم الصديق (١).
وجاء فتحٌ الموصليُّ إلى صديقٍ له فوجده غائبًا من منزله، فقال لجاريته: هل (٢) كيسه في البيت؟ فقالت: نعم، فاستدعى بكيسه فأخذ منه درهمين وردَّ الباقي عليها، فلما جاء سيدها أخبرته بذلك، فقال لها: إن كنت صادقةً فأنت حرةٌ لوجه اللَّه.
كذا كان الصالحون فيما سلف، وأما الآن فقد غلَب الشحُّ على القلوب فلا يأكل إلا بإذن.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}: قال قتادة: كان بنو كنانة بنِ خُزيمةَ يرى أحدهم عارًا في الجاهلية أن يأكل وحده، حتى كان أحدهم يمتنعُ وهو جائعٌ حتى يجدَ مَن يؤاكلُه ويشاربه (٣).
وعن أبي صالح وعكرمة قال: كانت الأنصار يشدِّدون في هذا، فكان إذا أضاف أحدهم ضيفًا لم يأكل إلا وضيفُه معه، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} (٤).
وقال سعيد بن جبير: كان العُرجان والعُميان والمرضَى يتنزَّهون عن مؤاكلةِ
(١) رواه ابن عساكر في "تاريخه" (٢٤/ ٣٩).
(٢) في (ف): "هذا"، وفي (ر): "ها".
(٣) رواه يحيى بن سلام في "تفسيره" (١/ ٤٦٣)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٦٤٩). وبنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" (٢٠٧٠)، والطبري في "تفسيره" (١٧/ ٣٧٦).
(٤) رواه عنهما الطبري في "تفسيره" (١٧/ ٣٧٧).