لأنَّ الخلائقَ لو اجتَمعوا على تصوير صورةٍ مِن نحو البعوض والذُّباب وتركيبِ ما يحتاج إليه مِن الفم والأنف والعين والرِّجل واليد والمَدخل والمَخرج، ما قدَروا عليه، ولعلَّهم يقدرون على تصوير العظام مِن الأجسام الكبار منها (١).
وقال غيرُه: إنَّ اللَّهَ تعالى قوَّى قلوبَ ضعفاء الناس بذِكْر ضعفاءِ الأجناس، وعَرَّف الخلقَ قدرتَه في خَلْق الضعفاء على هيئاتِ الأقوياء؛ فإنَّ البعوضَ على صِغَره بهيئة (٢) الفِيْل على كِبَره، وفي البعوض زيادةُ جناحَيْن، فلا يُستبعَد مِن كرمه أنْ يعطيَ على قليلِ العمل ما يُعطي على كثيرِ العمل مِن الخلقة، كما أَعطى صغيرَ الجثَّة ما أَعطى كبير الجثَّة مِن الخلقة، ومن العجيب أنَّ هذا الصغيرَ يؤذي هذا الكبيرَ فلا يَمتنعُ منه، ومن لُطف اللَّهِ تعالى أنَّه خَلَق الأسدَ بغاية القوَّة، والبعوضَ والذُّبابَ بغاية الضَّعف، ثم أَعطى البعوضَ والذُّبابَ جراءةً أَظهرها في طيرانهما في وجوهِ الناس وتماديهما في ذلك، مع مبالغةِ الناس في ذبِّهما بالمِذَبَّة، وركَّب الجُبْنَ في الأسد وأَظهر ذلك بتباعُده عن مساكن الناس وطُرقِهم، ولو تَجاسر الأسدُ تجاسُرَ الذُّبابِ والبعوضِ، لهلك الناسُ، فمنَّ اللَّهُ تعالى وجعلَ في المتجاسر (٣) الضعفَ، وفي القويِّ الجبنَ، وهو العزيزُ الحكيم.
وقال القشيريُّ رحمه اللَّه تعالى: الخَلْقُ في التحقيق بالإضافة إلى قُدرة الخالق (٤) أقلُّ مِن ذرَّةٍ مِن الهباء في الهواء، وسيَّان في قدرته البعوضة والعرش (٥)،
(١) انظر: "تأويلات أهل السنة والجماعة" (١/ ٤٠٦ - ٤٠٧).
(٢) في (أ): "كهيئة".
(٣) في (أ) و (ف): "التجاسر".
(٤) في (أ): "الحق".
(٥) في هامش (ف): "سيان في قدرته خلق العرش وخلق البعوض".