قال: فإنْ قيل: كيف عُوتِبَ كلَّ هذا العتابِ -حتى بعَثَ الملائكة بالخصومة عنده تمثيلًا لحاله وتقريرًا لذلك عنده، ثم أخبَر أنه غفَر له بعد طول المدة- إنْ كان معذورًا في ذلك غيرَ مؤاخَذٍ به؟
قيل: إن الأنبياء عليهم السلام كانوا يؤاخَذون بأدنى شيء كان منهم مما لا يُؤاخذُ غيرهم بذلك، بل يُعدُّ ذلك منهم مِن أرفع الأعمال وأجلِّها؛ نحوَ ما عُوتِبَ يونس عليه السلام في خروجه مِن بين قومه لِيَسْلَمَ له دينه أو نفْسه، لكنه خرَجَ بلا إذن مِن اللَّه فعوتِبَ كذلك، فعلى ذلك جاز أنْ يكون عِتابُ داود عليه السلام؛ لأنَّ ما فُعِلَ فُعِلَ بغير إذن مِن اللَّه تعالى.
ثم في بعْثِ الملائكة إليه وجوهٌ مِن الحكمة، وأنواعٌ مِن الفائدة:
أحدُها: جوازُ الحُجَّاب والحرَس، حيث دخلوا عليه مِن غير الباب.
والثاني: رفعُ الحُجَّاب عن الخصوم، والجلوسُ للقضاء في وقت حاجة الخُصوم، لا على وقت اختيار نفْسِه، حيث دخلوا عليه مِن غير باب الخصومة بلا إذنٍ منه.
والثالث: قُدْرةُ الملائكة على التصوُّرِ بصورة البشر، وذلك يرُدُّ على الفلاسفة قولَهم بخلافه.
ثم قولُ الخَصْمين {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وكذا وكذا -ولم يكن ذلك منهما- ليس بكذِب، بل هو تمثيلٌ وتشبيهٌ (١)؛ أي: لو كان أخوان لأحدهما كذا وكذا نَعْجةً وللآخر نَعْجةٌ واحدةٌ، فغلَب صاحبُ النِّعاج الكثيرة على صاحب النَّعْجة الواحدة فأخذَها، أليس يكون ظالمًا؟ فيكون تمثيلًا لا تحقيقًا (٢).
(١) في (ر): "وتغشية".
(٢) انظر: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (٨/ ٦١٥ - ٦١٧).