في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ولو قيل: وما عززت علينا، لم يصح هذا الجواب.
فإن قلت: فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ قلت: تهاونهم به- وهو نبىّ الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والظهرىّ: منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس:
أمسىّ بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط بأعمالكم علماً، فلا يخفى عليه شيء منها عَلى مَكانَتِكُمْ لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى: اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها إِنِّي عامِلٌ على حسب ما يؤتينى الله من النصرة والتأييد ويمكنني مَنْ يَأْتِيهِ يجوز أن تكون مَنْ استفهامية، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقىّ الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.
فإن قلت: أى فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سَوْفَ تَعْلَمُونَ؟ قلت: إدخال الفاء: وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها: وصل خفى تقديرىّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه وَارْتَقِبُوا وانتظروا العاقبة وما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أى منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت:
قد ذكر عملهم على مكانتهم «١» وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم،
(١) . قال محمود: «إن قلت قد ذكر عملهم على مكانتهم … الخ» قال أحمد: والظاهر- والله أعلم- أن الكلامين جميعا لهم، فالأول وهو قوله مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ مضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، ويكون من باب عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد، كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وإنما يعنى المخاطب في الكلامين، فإذا ثبت صرف الكلامين إليهم لم يخل ذلك من دلالة على ذكر عاقبته هو، لأن أحد الفريقين إذا كان مبطلا فالآخر هو المحق قطعا، فذكره لإحدى العاقبتين صريحا يفهم ذكر الأخرى تعريضا:
والتعريض كما علمت في كثير من مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح، وهذا منه، والذي يدل على أن الكلامين لهما وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر، استغناء عنها بذكر عاقبتهم، كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة، وهي قوله تعالى قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ألا تراه كيف اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، وكذلك قوله في سورة الأنعام قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك، كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ واستغنى عن ذكر مقابلتها، والله أعلم. فتأمل هذا الفصل فانه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز، وضم بعضها إلى بعض، والله الموفق للصواب.