جعله لفرط جوعه كجماعة جياع لا تَخافُ حال من الضمير في فَاضْرِبْ وقرئ: لا تخف، على الجواب. وقرأ أبو حيوة دَرَكاً بالسكون. والدرك والدرك: اسمان من الإدراك، أى: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. في وَلا تَخْشى إذا قرئ: لا تخف، ثلاثة أوجه: أن يستأنف، كأنه قيل وأنت لا تخشى، أى: ومن شأنك أنك آمن لا تخشى، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة، كقوله فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا وأن يكون مثله قوله:
كأن لم ترى قبلي أسيرا بمانيا «١»
ما غَشِيَهُمْ من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أى: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقرئ: فغشاهم من اليم ما غشاهم. والتغشية: التغطية.
وفاعل غشاهم: إما الله سبحانه. أو ما غشاهم. أو فرعون، لأنه الذي ورّط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقوله وَما هَدى تهكم به «٢» في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.
سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٠ الى ٨١
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
(١) .
وتضحك منى شيخة عبشمية … كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
وظل نساء الحي حولي ركدا … يراودن منى ما تريد نسائيا
لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، أسر يوم الكلاب في بنى تميم، فقال قصيدة يذكر فيها حاله منها ذلك. والشيخة:
العجوز. والعبشمية: المنسوبة لعبد شمس. وهو باب من النحت. وأثبت الألف في «ترى» مع أنه مجزوم لضرورة الوزن، أو للاتساع. وقيل إنها عين الفعل. وأصله تراى حذفت لامه للجزم. ونقلت حركة الهمزة للراء، وأبدلت الفاء. وحكى إعمال «لم» للنصب. وحكى أيضا إهمالها. وقياس النسبة إلى «يمن» : «يمنى» لكنهم حذفوا إحدى ياءى النسب هـ وعوضوا عنها الألف، وكان الذي يقوده صبيا، فسألته: من أنت؟ فقال: سيد القوم، فضحكت منه. والركد- كركع-: جمع راكدة، أى مقيمة لا تذهب من عنده. والمراودة: مفاعلة من راد يرود إذا تعرف حال المكان متطلبا للخصب، وهو قريب من معنى أراد يريد، أى: يتطلبن منى بلطف واختبار:
هل أرضى أولا؟ الشيء الذي تريده نسائي منى، وهو الجماع.
(٢) . قال محمود: «إنما قيل وما هدى تهكما به» قال أحمد: فان قلت: التهكم أن يأتى بعبارة والمقصود عكس مقتضاها، كقولهم: إنك لأنت الحليم الرشيد، وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين. وأما قوله تعالى وَما هَدى فمضمونه هو الواقع، فهو حينئذ مجرد إخبار عن عدم هدايته لقومه. قلت: هو كذلك، ولكن العرف مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية، مهتديا في نفسه، ولكنه لم يهد عمرا. وفرعون أضل الضالين في نفسه، فكيف يتوهم أنه يهدى غيره. وتحقيق ذلك: أن قوله تعالى وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ كاف في الاخبار بعدم هدايته لهم مع مزيد إضلاله إياهم، فان من لا يهدى قد لا يضل، فيكون كفافا. وإذا تحقق غناء الأول في الاخبار، تعين كون الثاني لمعنى سواه، وهو التهكم. والله أعلم.