فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم. وكما قدر على إنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله عَلى ذَهابٍ بِهِ من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد، من قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.
سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٩ الى ٢٠
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
خصّ هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، رطبا وعنبا، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون وَشَجَرَةً عطف على جنات. وقرئت مرفوعة على الابتداء، أى: ومما أنشئ لكم شجرة طُورِ سَيْناءَ وطور سينين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه، كإمرئ القيس، وكبعلبك، فيمن أضاف. فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء.
ومن فتح فلم يصرف، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش: سينا على القصر بِالدُّهْنِ في موضع الحال، أى: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: تنبت. وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم … قطينا لهم حتّي إذا أنبت البقل «١»
(١) .
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت … ونال كرام الناس في الجحرة الأكل
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم … قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا … وإن سئلوا يعطوا وإن يسروا يغلوا
وفيهم مقامات حسان وجوههم … وأندية ينتابها القول والفعل
لزهير بن أبى سلمي يمدح سنان بن أبى حارثة، والشهباء: الفرس يخالط سوادها بياض، شبه بها السنة المجدبة لكثرة بياض أرضها وخلوها عن سواد النبات والأمطار. أو لاختلاط نور الغنى فيها بظلمة الفقر. أجحفت بالناس:
أى ذهبت بهم ومحقت عنهم آثار الغنى، والاسناد مجاز عقلى. والجحرة- بتقديم الجيم المفتوحة-: السنة المجدبة وروى: في الحجرة. وأصلها بالتحريك، فسكونها لغة أو ضرورة وهي شدة الشقاء. ويجوز أن تقرأ بالضم بمعنى البيت، أى: ونال الأكل كرام الناس. ووصلهم داخل بيوتهم لبخلهم تلك السنة. ويروى: كرام المال. والمعنى أن كرائم الأموال نالها التأكل والتنقص في تلك السنة لجديها. ورأيت: جواب إذا. وذوى الحاجات: كناية عن الفقراء. حول بيوتهم: أى سنان وقومه. قطينا: أى مقيمين، فهو يطلق على الواحد والمتعدد. وقيل أنه جمع. ويروى قطينا لهم: أى مساكنين لهم عند البيوت، وذلك كناية عن كرمهم، حتى إذا أنبت البقل: أى نبت النبات الرطب وظهر الخصب، فهنالك: أى في ذلك الزمان إن يسألهم أحد أن يخولوه مالا كثيرا يخولوه: أى يولوه عليه. وإن سئلوا مالا قليلا يعطوا السائل. ويروى: إن يستخبلوا المال يخبلوا، بالموحدة، يستعر: أى منهم أحد إبلهم للانتفاع بألبانها وأوبارها زمن الجدب ثم يردها: أعاروه، وإن سألهم الإعطاء من غير رد أعطوه فلا يردون سائلا. وإن يسروا: أى لعبوا الميسر، يغلوا: أى يجعلوا الخطر غاليا كثيرا لعدم خوفهم على الفقراء لأن المال كثير بخلاف زمن الجدب. ويجوز أن يقرأ: وإن يسروا أى أعطوا بلا سؤال، يفلوا بالفاء. أى يتفقدوا الفقراء ويعطوهم، يقال: يسر كوعد: لعب الميسر، ويسر كترب وتعب: لأن ورق ورفق. وروى:
يسألوا وييسروا بالمضارع. والمقامات: المجامع من الناس. وروى: وجوهها. وعلى كل فالضمير للمقامات.
والأندية- جمع الندى- بمعنى الكرم، على غير قياس، ينتابها: أى يحرى عليها نوبة بعد نوبة قولهم وفعلهم.
أو يتداولها قول الناس وفعلهم. ويحتمل أنها جمع ناد بمعنى متحدث القوم. أو ندى على فعيل كذلك، ينتابها:
أى يجيئها نوبة بعد نوبة القول والفعل، أى: الصالحات.