أراد بالإنسان الجمع لا الواحد، لقوله وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ولم يرد إلا المجرمين، لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم. والرحمة: النعمة من الصحة والغنى والأمن. والسيئة:
البلاء من المرض والفقر والمخاوف. والكفور: البليغ الكفران، ولم يقل: فإنه كفور، ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم «١» ، كما قال إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها «٢» .
سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها: أنبع ذلك أنّ له الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته، فيخص بعضا بالإناث وبعضا بالذكور، وبعضا بالصنفين جميعا، ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولدا قط. فإن قلت: لم قدّم الإناث أوّلا على الذكور مع تقدّمهم عليهنّ، ثم رجع فقدّمهم، ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟
قلت. لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث لأنّ سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء، وأخر الذكور فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم، لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرّف أن تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ، ولكن لمقتض آخر فقال ذُكْراناً وَإِناثاً كما قال إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وقيل: نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، حيث وهب لشعيب ولوط إناثا، ولإبراهيم ذكورا، ولمحمد ذكورا وإناثا، وجعل يحيى وعيسى عقيمين إِنَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد قَدِيرٌ على تكوين ما يصلحهم.
(١) . قال محمود: «لم يقل: فانه كفور، ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران النعم … الخ» قال أحمد:
وقد أغفل هذه النكتة بعينها في الآية التي قبل هذه، وهي قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ فوضع الظالمين موضع الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن، فيقال: ألا إنهم في عذاب مقيم، فأتى هذا الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم
(٢) . قوله «وينسى النعم ويغمطها» يبطرها ويحقرها. أفاده الصحاح. (ع)