شيئان: سلامة رأس المال، والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس ما لهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة. وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة، لم يوصفوا بإصابة الربح. وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله: قد ربح، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ١٨
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر- شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبىّ، ولأمر مّا أكثر اللَّه في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال اللَّه تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. والمثل في أصل كلامهم: بمعنى المثل، وهو النظير. يقال:
مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل.
ولم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول والقبول، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير. فإن قلت: ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد نارا حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام، للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا. وكذلك قوله:
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أى وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها. وللَّه المثل الأعلى: أى الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
(مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : أى صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا:
فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن قلت: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت: وضع الذي موضع الذين، كقوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) والذي سوّغ