معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى.
فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب «١» من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيراً. وقيل معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
وقرئ: بين المر، بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ.
سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
فِتْنَةً ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل فِتْنَةً عذاباً. وقوله: لا تُصِيبَنَّ لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جواباً، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بنى إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً «٢» فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل:
واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبنّ، ونظيره قوله:
حَتَّي إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ … جَاؤُا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ «٣»
(١) . قوله «فأما ما يثاب العبد عليه … الخ» المسألة هنا من فروع مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية، فعند المعتزلة أن المريد الخالق لها هو العبد، وإذا صح تكليفه لظهور اختياره. وعند أهل السنة أن المريد الخالق لها هو الله تعالى. وإنما صح تكليف العبد لما له فيها من الكسب، وهو اختيار بعضها على بعض بشهادة الوجدان، خلافا للجبرية القائلين بالجبر المحض، ومحله التوحيد.
(٢) . قوله نهوا عن المنكر تعذيراً التعذير في الأمر: التقصير فيه اه صحاح. (ع)
(٣) .
بتنا بحسان ومعزاه يئط … يلحس أذنيه وحينا يمتخط
ما زلت أسعى فيهمو وأختبط … حتى إذا جن الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذيب قط
لأحمد الرجاز. وقيل: إنه للعجاج، يصف رجلا بالبخل. وبات بالقوم: إذا نزل بهم ليلا. والأط: صوت الجوف. والمعز- محركة ومسكنة- والمعيز، والأمعوز، والمعزى: خلاف الضأن من الغنم. فهو اسم جمع، وتأنيث المعزى لغة. والاختباط: تطلب المعروف من غير اهتداء. يقول: نزلنا عند حسان ليلا، والحال أن معزاه جائعة هزيلة، فالأطيط كناية عن الأول، والامتخاط كناية عن الثاني، ويجوز أن ذلك كناية عن كثرة المعز عنده، وليخله قراهم بالمذق بعد مدة كان يمكنه أن يذبح لهم فيها شاة، وهذا أنسب بما بعده، وضمير أذنيه يحتمل عوده على المعزى لأنه مذكر عند الأكثر، ويجوز أنه عائد لحسان، وهو ذم شنيع. وفيهم: أى في حيه. وجن النبت: طال. والليل: أظلم. والذباب: كثرت أصواته. والظلام: كثر واختلط وتراكم بعضه فوق بعض بحيث لا يتخلله نور. والمذق: المزج. والمراد به لبن مخلوط بماء. ويروى: بمذق- بالكسر-: وهو ذلك اللبن.
ويروى: جاءوا بضيح، بمعجمة فمثناة تحتية فمهملة، بمعنى المذق، إلا أنه رقيق، و «هل رأيت» استفهام تقريرى والجملة صفة لمذق، أى مذق مقول فيه ذلك، والمراد تشبيه المذق بالذيب في الكدرة، فكنى بالاستفهام عن ذلك، لأن من أراد إخطار الشيء بالبال ورسمه في الخيال يستفهم عنه، فكأنه قال له هل رأيته؟ فقال نعم، قال: إن اللبن مثله، لكن حذف هذا كله واستغنى بالاستفهام عنه. وقط: ظرف مبنى على الضم، وسكن الوقف.