وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ الآية، يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد، وذلك أنه روي أن اليهود كانت تأتي فتقول: السام عليك يا محمد، والسام:
الموت، وإياه كانوا يريدون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وعليكم» ، فسمعتهم عائشة يوما فقالت: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله: «مهلا يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش» ، قالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال: «أما سمعت ما قلت لهم؟ إني قلت وعليكم» . ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون، وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن الآن نلقى محمدا بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء، ولا يعاقبنا الله بذلك، ولو كان نبيا لهلكنا بهذه الأقوال، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم، فأخبر الله بذلك وأنها كافيتهم. وقال ابن عباس: هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود.
قوله عز وجل:
سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٩ الى ١٠
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
وصى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناج في مكروه، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة. وخص «الإثم» بالذكر لعمومه وَالْعُدْوانِ لعظمته في نفسه، إذ هي ظلامات العباد، وكذلك مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ذكرها طعنا على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك.
وقرأ جمهور الناس: «فلا تتناجوا» على وزن تتفاعلوا، وقرأ ابن محيصن «تناجوا» بحذف التاء الواحدة. وقرأ بعض القراء: «فلا تّناجوا» بشد التاء لأنها أدغمت التاء في التاء، وقرأ الأعمش وأهل الكوفة: «فلا تنتجوا» على وزن تفتعلوا. والناس: على ضم العين من «العدوان» . وقرأها أبو حيوة بكسر العين حيث وقع. وقرأ الضحاك وغيره: «ومعصيات الرسول» على الجمع فيهما.
ثم أمر بالتناجي بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى، وذكر بالحشر الذي معه الحساب ودخول أحد الدارين وقوله تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى، ليست إِنَّمَا للحصر ولكنها لتأكيد الخبر.
واختلف الناس في النَّجْوى التي هي مِنَ الشَّيْطانِ التي أخبر عنها في هذه الآية، فقال جماعة من المفسرين أراد: إِنَّمَا النَّجْوى في الإثم والعدوان ومعصية الرسول مِنَ الشَّيْطانِ، وقال قتادة وغيره: الإشارة إلى نجوى المنافقين واليهود، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم: الإشارة إلى نجوى قوم من المسلمين كانوا يقصدون مناجاة النبي عليه السلام، وليس لهم حاجة ولا ضرورة إلى ذلك، وإنما كانوا يريدون التبجح بذلك، وكان المسلمون يظنون أن تلك النجوى في أخبار بعد وقاصد أو نحوه.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان يعضدهما ما يأتي من ألفاظ الآية، ولا يعضد القول الأول.