واختلف المفسرون في كيفية إتيان التَّابُوتُ وكيف كان بدء أمره، فقال وهب بن منبه: كان التابوت عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا، فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح منكسة، فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم، وقيل: جعل في مخراة قوم فكانوا يصيبهم الناسور، فلما عظم بلاؤهم كيف كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا به على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت، فأيقنوا بالنصر. وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وقال قتادة والربيع: بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون، فجعله يوشع في البرية، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت. وكان أمر التابوت مشهورا عندهم في تركة موسى، فجعل الله الإتيان به آية لملك طالوت، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني إسرائيل، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل بينهم، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار طالوت، فاستوسقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت، وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، وقرأ زيد بن ثابت «التابوه» ، وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء.
قال القاضي أبو محمد: وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجها للين إسناده.
قوله عز وجل:
فِيهِ سَكِينَةٌ ...
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج ولها رأسان، وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب، وقال:
أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام. وقال وهب بن منبه عن بعض علماء بني إسرائيل:
السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر أيقنوا بالنصر. وقال ابن عباس: السكينة طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقاله السدي. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح: السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال الربيع بن أنس: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي رحمة من ربكم، وقال قتادة:
سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي وقار لكم من ربكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.