الْأَوْثانِ
الحج: ٣٠ ومثله من الشعر قول القائل: البسيط
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر
قال القاضي: وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك: ليكن منك رجل صالح، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون، التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها، وكذلك يدخل قوله تعالى: مِنَ الْأَوْثانِ ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر: منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح بيان الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها معنى التبعيض، ومعنى الآية على هذا التأويل: أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة، قال أهل العلم: وفرض الله بهذه الآية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرا بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
قال القاضي: والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون بالله على ما أصابهم» ، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما هي في قوله تعالى:
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ لقمان: ١٧ وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ المائدة: ١٠٥ معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال بعض العلماء: «المعروف» التوحيد، والْمُنْكَرِ الكفر، والآية نزلت في الجهاد.
قال الفقيه القاضي: ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية ولا بد، الْمُفْلِحُونَ الظافرون ببغيتهم، وهذا وعد كريم.
ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم، فقال ابن عباس: هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى اليهود والنصارى، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى فرق اليهود وفرق النصارى، ومجيء الْبَيِّناتُ هو ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وأسند الفعل دون علامة إلى الْبَيِّناتُ، من حيث نزلت منزلة البيان، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها، وباقي الآية وعيد، وقوله: عَذابٌ عَظِيمٌ يعني أنه أعظم من سواه، ويتفاضل هذان العرضان بأن أحدهما يتخلله فتور، وأما الجزء الفرد من