وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة، لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي» كما دخلت على «ذا» في قولك لفلان كذا وكذا، وكما دخلت على «أن» في قولك كأن زيدا أسد، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا، وفي كَأَيِّنْ، وصرفت العرب كَأَيِّنْ في معنى «كم» التي هي للتكثير، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت، وهذا كما لعب في قولهم:
لعمري حتى قالوا: وعملي، وكما قالوا: أطيب وأيطب، وكما قالوا: طبيخ في بطيخ، فعوملت الكاف «وأي» معاملة ما هو شيء واحد، فأما اعتلال لغة من قال: «كأين» على وزن فاعل، فإنهم أخذوا الأصل الذي هو «كاين» فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها، فجاء «كيا» على وزن كيع، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفا، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا: ميت وهين ولين، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي» تخفيفا ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما ... عليّ من الغيث استهلت مواطره؟
فجاء «كيا» على وزن كيع، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفا مراعاة للفتحة التي قبلها، كما قالوا: في يوجل يأجل، وكما أبدلوا الياء ألفا في «طاى» وكما أبدلت في آية عند سيبويه، إذ أصلها عنده أية على وزن فعلة بسكون العين، فجاء «كاء» ثم كتب هذا التنوين نونا في المصحف، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف، فكما يقولون: مررت بزيد فكذلك يقولون كأي، ووقف عليه أبو عمرو بياء دون نون، وكذلك روى سورة بن المبارك عن الكسائي، ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف، قال أبو علي: ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف، لكان قولا، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة، فأجازوا الإمالة في ألف «لا» كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال، فيوقف على «كأين» بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف من «لا» إذا لم يحذف فعلها.
قال الفقيه أبو محمد: وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ ابن كثير وحده، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين» ، وذهب يونس بن حبيب في «كأين» إلى أنه فاعل من الكون، وقوله مردود، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب، وأما اللغة التي هي «كأين» على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو «كأين» بالتعليل المتقدم، فلما جاء «كيا» على وزن كيعن، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفا كما تقدم في التعليل الأول، وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين» على وزن كعين، وحسن هذا من وجهين: أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء، وأما اللغة التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضا، حكاها عنه أبو عمرو الداني، وقرأها الحسن بن أبي الحسن، إلا أنه سهل الهمزة ياء، فقرأ كي في جميع القرآن، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من «كاء» الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفا، وهذا كما قالوا: أم والله، يريدون: أما، وكما قالوا على لسان الضب المجتث :
لا أشتهي أن أردّا ... إلّا عرادا عردّا
وصليانا بردا ... وعنكثا ملتبّدا