أمن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من ضررهم إذ أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين لَنْ يَضُرُّوكُمْ آل عمران: ١١١ ثم قال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار، ومنه قوله: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
الجن: ١٥ ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم، وذلك أنه قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى، وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني بالتوراة وبموسى، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ المائدة: ٤١ أنه يراد به اليهود.
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ الآية، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و «الهدى» :
الإرشاد في المعتقد والشرائع، و «النور» : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية وأَسْلَمُوا معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا متعلق ب يَحْكُمُ أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى:
الرَّبَّانِيُّونَ عطف على «النبيين» أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء، وفي البخاري قال «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل «الرباني» منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه، وزيدت النون في «رباني» مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني، والأحبار أيضا العلماء واحدهم حبر بكسر الحاء، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار» الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانيا والآخر حبرا. وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم