الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ «أفحكم» بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولا عوض من الضمير، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون فلا تجعل يبغون خبرا بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، ونظيره قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ النساء: ٤٦ تقديره قوم يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ومثله قول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقرأ سليمان بن مهران «أفحكم» بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها، وله نظائر.
قال القاضي أبو محمد: فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ، وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة «يبغون» بالياء من تحت، ويَبْغُونَ معناه يطلبون ويريدون، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً تقرير أي لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله: لِقَوْمٍ من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.
قوله عز وجل:
سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٢
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا ورهنه درعه، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم: سببها أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفا لهم، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر، وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درعه، وقال: يا محمد أحسن في مواليّ، فقال له رسول الله: