{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} النساء: ١٢، ثم بيَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُرَادَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ المُوصِي أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَالَ: "الثُلُثُ والثُلُثُ كثيرٌ".
ومَعْنَى قَوْله - صلى الله عليه وسلم - لِسَعْدٍ: "وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتَفعَ بِكَ أَقْوَامٌ، ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ" أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَبْقَاهُ حتَّى أُمِّرَ على العِرَاقِ، فَقتلَ قَوْمًا كَانُوا ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلَامِ فَضُرُّوا بِهِ، واسْتَتَابَ قَوْمًا كَانَ يَسْجَعُونَ بِتَسْجِيعِ مُسَيْلَمَةَ الكَذابِ فتَابُوا وانتفَعُوا بهِ.
وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - في آخِرِ الحَدِيثِ: "لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ، يُرثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ مَاتَ بِمَكَّةَ"، قالَ عِيسَى: (البَائِسُ) كَلِمَةٌ تُقَالُ للإنْسَانِ إذا نَزَلَتْ بِهِ مُصِيبَةٌ، وكَانَ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ قَدْ أَسْلَمَ بِمَكةَ قَبْلَ الفَتْحِ، ثُمَّ أَقَامَ بِهَا حتَّى مَاتَ فِيهَا ولَمْ يُهَاجِرْ مِنْهَا إلى المَدِينَةِ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ، فَرَثَى لَهُ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِتَرْكِهِ الهِجْرَةَ التي كَانَتْ فَرْضًا على كُلِّ مُسْلِمٍ في أَوَّلِ الإسْلَامِ أَن يُهَاجِرَ مِنْ بَلَدِهِ إذا أَسْلَمَ فِيهِ إلى المَدِينَةِ، حتَّى ارْتَفَعَتِ الهِجْرَةُ عَامَ الفَتحِ حِينَ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونيَّةٌ" (١).
وفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: الخُوْفُ على مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهِ التِّي تَلْزَمُهُ حتَّى مَاتَ ولَمْ يَأتِ بِهَا وإنْ كَانَ مُوحِّدًا حتَّى مَاتَ على التَّوْحِيدِ، لأَنَ الإيمَانَ قَوْلٌ، وعَمَلٌ، ونيَّة، وإصَابَةُ السُّنَّةِ.
* قَوْلُ مَالِكٌ في الذي يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، ويَقُولُ: غُلاَمِي يَخْدِمُ فُلاَنًا مَا عَاشَ، فإذا مَاتَ فُلاَنٌ فَغُلاَمِي حُرٌّ، فَيُوجَدُ العَبْدُ ثُلُثَ مَالِ المَيِّتِ، فإنْ خَدَمَةُ العَبْدُ تُقُوِّمَ، ثم يَتَحَاصَّانِ فِيهَا ٢٨٢٥.
تَفْسِيرُ ذَلِكَ: هُوَ أنْ يُنْظَرَ إلى عُمُرِ العَبْدِ وإلى عُمُرِ المُوصِي بالرَّقَبةِ، فَأَيهَما كَانَ أَقَلَّ عُمُرٍ مِنْ صَاحِبهِ أُقِيمَتْ خِدْمَةُ العَبْدِ تِلْكَ المُدَّةِ.
واسْتَحَبَّ ابنُ القَاسِمِ في ذَلِكَ تَعْمِيرَ سَبْعِينَ سَنَةٍ، يُقَالُ مَا قِيمَةُ خِدْمَةِ هذا
(١) رواه البخاري (١٧٣٧)، ومسلم (١٣٥٣)، من حديث ابن عباس.