وقَوْلُهُ: "ولَا تَدَابَرُوا"، يَعْنِي: لا يَعْرِضُ أَحَدُكُمْ عَنْ أَخِيه المُسْلِمُ بِوَجْهِهِ، ويُوَلّيهِ دُبُرَهُ اسْتِثْقَالًا لَهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبلَهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ، ويُحْسِنَ لَهُ خُلُقَهُ، وقالَ ابنُ عُمَرَ: (البِرُّ شَيءٌ هَيِّن، وَجْهٌ طَلِيقٌ، وكَلَامٌ لَيِّنٌ" (١).
وقَوْلُهُ: "ولَا تَجَسَّسُوا"، يَعْنِي: لا يُرْسِلُ أَحَدُكُمْ مَنْ يَسْأَلُ لَهُ عَمَّا يُقَالُ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ، والتَّجَسُّسُ -بالجِيمِ-: البَحْثُ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، وسُوءُ الظَّنِّ بِهِم.
وقَوْلُهُ: "لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ" قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا حَدٌّ مَوقُوتٌ في مُهَاجَرَةِ الرَّجُلِ أَخَاهُ، ومَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الغِلِّ الذِي لا يَحِلُّ إلَّا في أَهْلِ البدَعِ، أَو مَنْ يُجَاهِرُ بالكَبَائِرِ لا يَسْتَحِي مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ ولَا مِنَ النَّاسِ، أو ظَالَمٌ يَظْلِمُ النَّاسَ لا يُرَاقِبُ الله جَلَّ وَعَزَّ فِيهِم، فَهُجْرَانُ هَؤُلَاءِ مُبَاحٌ، وتَرْكُ مُجَالَسَتِهِم وَاجِبَةٌ، ولَا غِيبَةَ فِيهِم.
قِيلَ لِمَالِكٍ: الرَّجُلُ يَهْجُرُ أَخَاهُ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَهُوَ مُجْتَنِبٌ لِكَلَامِهِ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا لَهُ لَمْ يَتَبَرَّءْ (٢) مِنَ الشَّحْنَاءِ حَتَّى يُكَلِّمَهُ، ويُسْقِطَ مَا كَانَ مِنْ هُجْرَانهِ أَخَاهُ.
وقالَ غَيْرُهُ: وهَذا في غَيْرِ الفَاسِقِ المُعْلِنِ الفِسْقَ الذِي لا يَقْبَلُ المَوْعِظَةَ إذا وُعِظَ، فَهُجْرَانُ هَذا مُبَاحٌ، ولَا غِيبَةَ فِيهِ إذا ذُكِرَتْ أَفْعَالُهُ.
* وقَوْلُهُ: "اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا" ٣٣٦٩ يَعْنِي: اتْرُكُوا هَذَيْنِ المُتَصَارِمَيْنِ غَيْرَ مَغْفُورٍ لَهُمَا حَتَّى يَرْجِعَا عَنْ هُجْرَانِهِمَا، فإذا كَانَ الهُجْرَانُ مَانِعًا للغُفْرَانِ لَمْ يَنْبَغِ للمُسَلِّمَيْنِ أَنْ يَتَمَادَيا فِيهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ.
* * *
(١) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (٣١٦)، والبيهقي في شعب الإيمان ٦/ ٢٥٥.
(٢) من (ق)، وفي الأصل: يبر.