لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به ولا بأعجب من قول آخرين، أن العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله، وكل هذا لا يعتد به". (١).
وقال أيضًا:
"فإن قيل: فلم زعمتم أنّ البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرُّفهم في أجناس الفصاحات، وهلَّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك على ضمّ الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة.
ونرى من هذا أنَّ القائلين بهذا القول يشككون في مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلًا، بل إنَّ القصد الذي يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرَّد في علوِّ البلاغة القرآنية، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوي بأنه من صنع محمد-صلى الله عليه وسلم-، وهكذا يسير الخط من الاحتمالات تنافي الواقع إلى توهين لأمر القرآن، إلى ادِّعاء أنه ليس من عند الله". (٢)
٤ - الخطابي (ت: ٣٨٨ هـ) -رحمه الله-
أما الخطابي فقد رد القول بالصَّرْفة بعد أن بَيَّنَ معناها ووضَّح مفهومها ومقصدها عند من قال بها، ثم عقب ذلك بقوله:
" … لأن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله سبحانه (قُلْ لَئِنْ اجَتَمعَتِ الإنسُ والجِنُّ عَلى أَنْ يأتُوا بمثْلِ القُرآنِ لا يأتُونَ بمِثْلِهِ وَلوْ كانَ بَعْضُهمْ لبعضٍ ظَهِيرًا) الإسراء، ٨٨، فأشار في ذلك إلى
أمر طريقة التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصَّرْفَةِ التي وصفوها لا يلاءم هذه الصفة، فدل على أن المراد غيرها والله أعلم (٣).
والخطابي هنا يرد الصَّرْفة ويرد على القائلين بها بحجية آية التحدي في الإسراء، ومع ذلك فإن القائلين بها استدلوا بنفس الآية مع إنها حجة عليهم لا لهم، والخطابي حينما يستدل بآية الإسراء
(١) إعجاز القرآن للباقلاني: (ص: ٢٤). إعجاز القرآن للباقلاني المؤلف: أبو بكر الباقلاني محمد بن الطيب (المتوفى: ٤٠٣ هـ) المحقق: السيد أحمد صقر الناشر: دار المعارف - مصر الطبعة: الخامسة، ١٩٩٧ م عدد الأجزاء: ١
(٢) - المرجع السابق: (ص: ٢٥).
(٣) - الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص ٢٣.