وما أُثِرَ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- كذلك في قوله: (ضَمِنَ اللهُ لمَن قَرَأَ القرآنَ لا يَضِلُّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قَرَأَ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) طه: ١٢٣. (١) والمرادُ بالقراءةِ الاتِّباعُ، بدليلِ نَصِّ الآية.
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-:
(لا يجدُ طَعْمَه ونَفْعَه إلا مَن آمَنَ بالقرآنِ، ولا يحملُه بحقِّه إلا الموقِن) (٢).
والأجيال المسلمة على مر الأزمان والعصور ومرور الأيام والدهور في أمس الحاجةٍ لفهم تلك المعاني التي تربى عليها الرعيل الأول من جيل المهاجرين والأنصار، وغَرْسَهَا في نفوسِ الناشِئة
منذ نعومة أظفارهم وحداثة أسنانهم، حتى تنشأ أجيال معظمة لله ولكتابه على غرار ما كان عليه أسلافهم.
الأمر الثاني: تميز منهج الصحابة في تلقي القرآن
كان منهجهم رضي الله عنهم تلقي وتعلُّم الإيمان قَبلَ القرآن.
لقد تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم بقوة الإيمان المصحوب بصدق التوجه إلى الله وتعظيمه وإجلاله سبحانه، والتزام أوامرِهِ واجتناب نواهيه، ولذا فإنه قد سَهُلَ عليهم تَلَقِّي أحكامِ الله بالقبول والإذعان والتسليم، فأثمر ذلك المبادرة والمسارعة في الخيرات، وهذا كله من آثار تعلمهم الإيمان قبل القرآن وهو الجانب الرئيس والركيزة الأم في التربيةِ الإيمانية أولًا، ثم إتباعها بالتربية القرآنيةِ ثانيًا، والعهد المكي كان عهدًا تربويًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني التربية الكاملة الشاملة، كما أنها رسخت في نفوس الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- الإيمان بمعناه الكامل ولاسيما الإيمان بالله واليوم الآخر، فغرس عمق الإيمان وأصالته في سويداء قلوبهم حب القرآن وتعظيمه وإجلاله وإنزاله المنزلة التي أرادها الله منهم، كما هَيَّأَهم لِتَلَقِّي ما ورد فيه من تَوجيهاتِ، ولا سيما في القرآن المكي الذي يتَّسم بترسيخ الإيمان والأمر بتحقيق التوحيد ومقتضياتِه، ونبْذ معالم الشرك، وهدم أركانه، والتَّخلِّي عن مظاهرِه ومعطياته، وترْويض النُّفوس على طاعة الله ورسوله، وتهيئتها للانقياد لأوامره، وتهيئتها كذلك لقَبول التَّشريعات، والتحلي
بالصَّبر وتحمُّل الأذى والمشاق في ذات الله تعالى، كل ذلك كان بمثابة التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، والمعني هنا هو " تحقيق وترسيخ تعلُّم الإيمان قَبلَ تعلم القرآن".
(١) - أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/ ٤١٣ برقم ٣٤٣٨.
(٢) - صحيح البخاري ٢٤/ ٤١٠