أشعارهم ومفاخرهم. ثم نزل القرآن فبهرهم بقوة بيانه وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روحًا من أمر الله تعالى". (١)
والعرب أمة حافظة لا تكاد تخطئ في حفظها، وأصحاب ذاكرة حاضرة لا يكاد يعزب عن ذاكرتها شيء، ولا سيما وأن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، وفصاحة من اللغة، ورفعة من البلاغة
والبيان، وقوة من التحدي و الإعجاز ما يرغب ويحث على العناية به والاهتمام بحفظه، ولذلك كثر فيهم حُفاظه صدرًا، وكُتابه سطرًا،
قال الباقلاني (ت: ٤٣٠ هـ) - رحمه الله -:
وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير؛ إذ كان عمدة دينهم، وعلمًا عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله (٢) في أحكامهم". (٣)
المنهج الثاني: حفظه في السطور
"بُعِثَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - إلى أمَّةٍ أُمِّيَّة لا تكتب ولا تحسب ولا تعرف عن الخط والكتابة شيئًا؛ اللهم إلا نزرًا يسيرًا في جزيرة العرب كلها، وبضعة عشر رجلًا من قريش خاصة ونفرًا قليلًا من أهل المدينة، ومجاوريهم من اليهود عرفوا الخط والكتابة قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل.
ومن أهل المدينة عمر بن سعيد، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، والمنذر بن عمرو، وكان بها يهودي يعلم الصبيان الكتابة ولقلة انتشار الكتابة في ربوع الجزيرة العربية وانحصارها في أفراد قلائل من أهلها صح التعبير عن الأمة العربية بأنها أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.
والمشهور عن قدماء التاريخ أن أستاذ القرشيين في الكتابة والخط حرب بن أمية بن عبد شمس والد أبي سفيان الصحابي الجليل. لأنه كان رجلًا كثير الأسفار إلى البلاد بالتجارة فتعلم الكتابة والخط على يد أهل هذه البلاد. وعلَّمَها القرشيين فبدء الخط بمكة كان على يديه. واختلف المؤرخون في تعيين من علم حرب بن أمية فقيل هو عبد الله بن جدعان وقيل بشر بن عبد الملك. وإليك ما ورد في هذا.
ذكر الداني بسنده إلى زياد بن أنعم قال: قلت لعبد الله بن عباس معاشر قريش: هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي تجمعون فيه ما اجتمع وتفرقون فيه ما افترق. هجاءًا بالألف واللام
(١) - مناهل العرفان: (١/ ٢٤٠). بتصرف يسير.
(٢) - الأولى أن يُقال: التحاكم والرجوع إليه بدلًا عن: استعماله. الباحث.
(٣) إعجاز القرآن: (ص: ١٦).