وإنما الذي تحقق من الأهداف هو ما أراده مُؤسسو ومرجو هذا الفكرة أولًا من المستشرقين، بل إن أحدهم قد تراجع عن هذا العمل ألا وهو المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير: (ت: ١٣٩٣ هـ) وقد مر معنا في طيات البحث ذكر خبر تراجعه عن ترتيب ترجمته للقرآن بحسب ترتيب النزول لما رأى خطأه، فأعاد ترتيب تلك الترجمة بحسب الترتيب المصحفي، هذا مع سوء نيته وخبث طويته.
فهل كان للثلاثة نفر الذين خرقوا هذا الخرق أن يتراجعوا عن فعلهم كما تراجع عن مثله ذلك المستشرق، ويؤبوا إلى ما أجمع عليه أسلافهم الصالحون، لأنهم بذلك قد أفسدوا نظم القرآن.
وقد قيل في نحو ذلك: "من قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن". (١).
وَلَمَّا أنهم كانوا قد قضوا نحبهم وقضوا آجالهم فحق لأهل الحل والعقد من الجهات المعنية في الأمة أن يبرموا في ذلك أمر رشيدًا وأن يعملوا على رأب صدعهم بعد أن أفضوا إلى ربهم، فكان لزامًا عليهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم تجاه كتاب ربهم، ولقد عناهم الله بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: ١٨٧).
قال ابن سعدي (ت: ١٣٧٦ هـ) - رحمه الله - في تفسيره:
"الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل". (٢)
فلزمهم أن يقوموا بواجبهم تجاه كتاب ربهم ويردوا تلك المصنفات إلى ما أجمعت عليه الأمة وسارت عليه تلك القرون الطوال، كما يُرد المتشابه إلى المحكم، فإن من خصائص أهل الحق رد المتشابه إلى المحكم، كما إن من خصائص أهل الباطل اتباع المتشابه ورد المحكم.
طوام كبرى نخشاها
هذا ونخشى أن يأتي على الأمة زمان يأتي فيه من يُنادي بإعادة ترتيب آيات القرآن ترتيبًا نزوليًا كما نادى المستشرقون بترتيب السور ترتيبًا نزوليًا كذلك، وهم يريدون بذلك الطعن في القرآن ليفقد بذلك أعظم دلائل بقائه وحفظه، من مصداقيته، وتحقق أوجه إعجازه، وجزالة لفظه، ودقة نظمه، وترابط نصه، ووحدة موضوعيته، ولكن كما قال الله تعالى: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة من آية: ٣٢)، فقد تولى الله تعالى حفظ كتابه بذاته العلية فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ
(١) الإتقان: السيوطي ج ١ ص ٦٢. وعزاه لابن الأنباري.
(٢) تفسير ابن سعدي: (١٦١/ ١).