قال العلامة عَطِيَّة سَالِم -رحمه الله-:
يَذْكُرُ المُفَسِّرُونَ، عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كانَ يَرَاهُما مُعَوِّذَتَيْنِ مِن غيرِ القرآنِ، ولكنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ قالَ: أَشْهَدُ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أخْبَرَنِي: ((أنَّ جِبريلَ عليه السلامُ قالَ له: (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ) فقُلْتُها، وقالَ: (قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ) فقُلْتُها. فنَحنُ نقولُ ما قالَه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-. ذَكَرَه ابنُ كَثِيرٍ عن الإمامِ أحمدَ.
وذَكَرَ نحوَه عن البُخَارِيِّ ثُمَّ قالَ: ثُمَّ قد رَجَعَ عن قولِه إلى قولِ الجماعةِ؛ فإنَّ الصحابةَ- رَضِيَ اللَّهُ عنهم- أثْبَتُوهُما في المَصاحِفِ الأَئِمَّةِ، ونَفَذُوهَا إلى سائرِ الآفاقِ.
ورُوِيَ عن الإمامِ أحمدَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ بهما في الصلاةِ، وساقَ عِدَّةَ طُرُقٍ في إثباتِ أنَّهما قُرآنٌ؛ ممَّا يَنْفِي أيَّ خِلافٍ بعدَ ذلك في إثباتِهما.
وقد اعْتَذَرَ القُرْطُبيُّ عن ابنِ مَسعودٍ بأنَّه لم يَسْمَعْهُما مِن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-على أنَّهما قُرآنٌ، وسَمِعَهما فظَنَّهُما أنَّهما دُعاءٌ مِن الأَدْعِيَةِ؛ كقولِه -صلى الله عليه وسلم-: ((أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) (١). ولَمَّا بَلَغَه إثباتُهما عن رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-رجَعَ إلى قولِ الجُمهورِ. (٢).
والشيخ عطية سالم -رحمه الله- قد جَلَّى الأمر، ورد جُلَّ الشبهِ الواردة حول المعوذتين بأبلغ عبارة وأقصر إشارة.
القول الثاني عشر: قول عبد الرحمن بن محمد القماش (م) صاحب "الحاوي في التفسير"
قال القماش:
المسألة الخامسة عشرة: هل أنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن؟
نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن، وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن، واعلم أن هذا في غاية الصعوبة، لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلًا في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذٍ كان ابن مسعود عالمًا بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل، وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلًا في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة
(١) - مسند أحمد: ط الرسالة: (٢٤/ ٢٠٠)، وصححه الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (٢/ ٤٩٥).
(٢) تتمة أضواء البيان: (٩/ ٣٣٧).